جماليَّات المكان في العرض المسرحي المعاصر

جماليَّات المكان في العرض المسرحي المعاصر
آخر تحديث:

 أ.د. باسم الاعسم

عنوان مقالنا كتاب لمخرج تنويري خبر المسرح وأدرك عن وعي قيمة الجمال في اكتمال صور نص خطاب العرض المسرحي، ومن ثم دور المكان بوصفه دالاً بصريّاً مؤثراً في التعبير عن الجمال  الآسر.

إنَّ المخرج العراقي المغترب كريم رشيد مولع بالتجريب المسرحي، والمشاكسة الدرامية والمنقب الحثيث عن مواطن الأمكنة الخرافيّة ما قبل الفلسفة إلى العصر الحديث، على وفق منهج (نقدي معرفي) كوسيط لتعزيز سلطة جماليّة المكان في منأى عن القراءات السطحيّة الساذجة، والتأويلات المباشرة، بل النظر إلى المكان بوصفه نسقاً علاماتياً متحولاً، وليس كتلة ديكورية جامدة لا روح فيها ولا جمال، لكن بحسب المقاربة التجديدية المبصرة التي تستنطق المكان بحيثياته على وفق رؤية تفسيرية تغادر الفهم التشخيصي لأنساق خطاب العرض المسرحي، ومنها المكان بعده فاعلاً جمالياً مهيمناً، مما انعكس ذلك على حسن اختيار المؤلف كريم رشيد لعينات بحثه الأكاديمي التي لعب المكان فيها دوراً حاسماً في تحديد هويتها المائزة والمخرجة من قبل أساطين المسرح العراقي أمثال: سامي عبد الحميد وجعفر السعدي وعوني كرومي وصلاح القصب وسعدي يونس وقاسم محمد، بعد أن ساح المؤلف في الفلسفة لإيضاح طبيعة المكان ما قبل الفلسفة، والمكان في الفلسفة الإغريقيّة، معرّجاً على تاريخانيّة المكان وتطوره تراتبيّاً. 

إنّ الكتاب في أصله رسالة ماجستير نوقشت في أكاديمية الفنون الجميلة – جامعة بغداد عام 1989 وقد كانت من الرسائل الجامعية العلمية المغايرة ذات الأسلوب الرصين والمنهج المتين.وقد أفاد المؤلف المخرج كريم رشيد من آليّات المنهج البنيوي في دراسة المكان بعده بنية تركيبية محكومة بأنساق العلاقات بين الدوال والمداليل المشيدة لبنية الديكور، ولم يترك المؤلف صغيرة وكبيرة إلّا وذكرها، كما الحال في الفصول الاستهلالية المتأرجحة بين التأصيل لمصطلحي الجمال والمكان، ومن ثم التعريف بالمقاربات الإخراجيّة المعاصرة، كما الحال في المسارح الروسية، والفرنسية والألمانية وروادها. في ما يكرّس الفصل الرابع (الإجرائي) لفحص جماليات الأمكنة في عروض المسرح العراقي والكتابة عنها بروح الباحث الأكاديمي المقتدر.في مهاد الفصل التطبيقي يشير المؤلف بنباهته المعروفة إلى الاشتغالات الجماليّة للمكان منذ أن اتكأت العروض المسرحية في بواكرها على المناظر المرسومة، في عقد الخمسين من القرن الماضي، في ما برزت بعض المقاربات التجديدية في التعامل مع الديكور عقب مجيء عدد من أساتذة المسرح ومنهم جعفر السعدي وجاسم العبودي وإبراهيم جلال، وجرت محاولات إزاحة الجدار الرابع لدمج الجمهور بالصالة، ومن ثم تقديم بعض العروض ذات الأساليب الرمزية والانطباعية على حد وصف المؤلف وكان أبرزها إخراج الفنان حميد محمد جواد لمسرحية (هاملت).

ويشير المؤلف إلى المساهمات الرياديّة في مضمار الفن التشكيلي برعاية المصمم كاظم حيدر الذي صمم العديد من ديكورات العروض المسرحية، التي توافقت مع شيوع المنحى التجريبي.إنّ أهم ما يقال بصدد المؤلف كريم رشيد، وما يحسب له، قدرته الواضحة في استجلاء ملامح المكان وتبايناته لدى المخرجين، وبحسب لغة نقدية راقية مشفوعة برؤية فنية لمخرج يدرك حيثيات المكان وجمالياته، مهما تنوعت الأمكنة، وتغايرت مقارباتها الفنية والجمالية، فهو قد شاهد العروض المسرحية وعاصر الاتجاهات الإخراجيّة، وتتلمذ على بعض أساطين الإخراج المسرحي، مما يضفي عليه – بجدارة- صفة الباحث الأكاديمي الرصين والمخرج الكفء الذي استطاع تشخيص ملامح الأمكنة وجمالياتها، كما لو كان ناقداً مسرحياً موضوعياً ومقتدراً. من فرط موهبته وثقافته وقلقه الإبداعي.لقد عزز بحثه الجمالي والنقدي بعدد من التوصيات التي تترجم قلق المؤلف في البحث عن أمكنة بديلة لمسرح مختلف وبديل، بإتجاه إثراء التجربة المسرحية وصدم ذائقة وآفاق توقع الجمهور، إذ إن الأمكنة التي اقترحتها مخيلة المؤلف كريم رشيد تنم عن ذكاء في الانتقاء، وجدوى في الاختيار، إذا ما تبنتها ودعمتها وزارة الثقافة ومؤسساتها ذات الصلة، فهي بلا شك أمكنة رائعة، ومناسبة لمسرح بديل، كما في مبنى متحف الرواد والباب الوسطاني لسور بغداد، وخان مرجان والمتحف البغدادي ومبنى القشلة وزقورة عقرقوف وحدائق الأمة وسواها.وأحسب أن هذا الكتاب من الثراء بحيث لا يستغنى عنه أبدا سواء من قبل القراء أو الباحثين المسرحيين والمخرجين على حد سواء.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *