تعالوا نقرأ الحجاج جيدا.. إذ تنتج هذه الامة اجيالا محسنة عنه اكثر قسوة، مثلما تنتج مصلحين بررة اكثر شجاعة.
الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق لعبدالملك بن مروان قبل الف واربعمائة عام، وهو، في مصطلح هذه الايام، مسؤول كبير في دولة ذلك الزمان، بلغ من من القسوة ما جعله يتسلى بها ويتلذذ في عذاب ضحاياها، وكان يخاطبهم بالقول: “طاعتي عليكم اوجب من طاعة الله”.
كان الحجاج خطيبا بارعا، ولغويا شهيرا، بستعير كلماته من كلام الله، وينحتها من حجر النحو والبلاغة، وهو نفسه كان عالم لغة، تفنن في اختزالها الى مفردة لاثارة هلع الناس الذين يتسلط عليهم، وتخويفهم، واذلالهم، وإخضاعهم، وليس من غير مغزى ان يتلقب الطاغية المعاصر في الكثير من الاحوال بانه حجّاج زمانه، وخصّه الخليفة عمر بن عبدالعزيز بالقول: “لو جاءت كل امة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج، لفزنا عليهم جميعا” وتذكر الكتب انه لما دخل البصرة في طريقه الى الكوفة، جلس على المنبر بالجامع، وأمر جنده (حماياته) بأخذ الابواب، وإشهار السيوف، وقال لهم: اذا رأيتموني أضع العمامة عن راسي فضعوا سيوفكم فيهم(في المصلين) ثم بدا خطبته، فالقى عليه الناس الحصى، فخلع العمامة ووضعها على ركبتيه، فجعلت السيوف تبري الرقاب، وسالت الدماء الى ابواب المسجد.
في السايكولوجيا والطب وعلم التاريخ، ثمة من الحجاج ما بقي في سلوك وثقافة البشر الذي عاش بينهم، وساسهم، وتحكم في رقابهم، وكذلك في فنون حكم الحكام، وشاءت صفحات التاريخ ان تحدثنا عن اكثر من حجاج واحد انتجه اجدادنا، وهناك حجاجيون محسّنون، يأتون الشنائع بلغة سليمة، ولا تأخذهم الشفقة في بريء، او بعابر سبيل، لكنهم، مقابل ذلك إذلاء امام الاقوياء او امام اصحاب النعمة، وكان الحجاج يخاطب عبدالملك بقوله: “إنك عند الله افضل من الملائكة المقربين والانبياء المرسلين”.
الحجاج كان موظفا، وكل الذين برأوه من ظنة القسوة والبطش في العراق والقوها على عاتق الخليفة عبدالملك ارتكبوا ظنة تزوير الحقائق مثلهم مثل الذين برأوا الخليفة وافترضوا ان الحجاج كان وحده المسؤول عن تلك الخطايا، فان الاستبداد المركزي يخلق استبدادا ربما اكثر بشاعة في الاطراف، لكن سيرة وسلوك وايديولوجية الحجاج تعطينا، إذا ما قرأناها جيدا، خطوطا من المحاذير الخطيرة في الادارة والسياسة، يمكن تلخيصها بعنوان عريض هو: الحكم الغاشم ينتج موظفين من جنسه.