آخر تحديث:
بقلم: حامد الكيلاني
الاستمرار في تبني لغات مختلفة للميليشيات لا يبني دولة ولا يضع حجر أساس لأي تنمية، ورغم أن العراق عبر تاريخه الحديث اجتهد في وضع قواعد وإعلاء صروح المؤسسات، إلا أنه مع كل تغيير، إن في الانقلابات السياسية أو العسكرية، صعوداً إلى الاحتلال الأميركي، ألغى بالأقساط أو نقدا كل ما تراكم من جهود وخبرات وإنجازات العهود أو الحكومات السابقة.
الميليشيات في العراق هي بناء مسبق التجهيز والتدريب والإعداد، حيث ساهمت تلك الميليشيات في الحرب الإيرانية العراقية بالقتال إلى جانب إيران، وكبدت الجيش والشعب العراقيين خسائر في الأرواح والمعدات، ومن بينها العمليات الإرهابية التي طالت الأبرياء داخل المدن وتحديداً في العاصمة بغداد؛ وهؤلاء انتقلوا بعد احتلال العراق في أبريل 2003 إلى حكم العراق كأحزاب ومنظمات وبرعاية أميركية فجة في سخريتها، لأنها رفعت شعار النظام الديمقراطي الجديد للعراق أو للشرق الأوسط.
الولايات المتحدة الأميركية منذ الاحتلال تدعم الحكومة العراقية وتشد على يديها في دوراتها الانتخابية وزعاماتها، وتنقلت من مرحلة إلى أخرى، من مرحلة ما قبل داعش إلى مرحلة ما بعد داعش وزوال أو اضمحلال التنوع السكاني، مع اختصار المشهد السياسي بتناوب عملاء إيران إن كان نوري المالكي أو حيدر العبادي، أي حزب الدعوة وتحالفه الطائفي لقيادة العراق من سيء إلى أسوأ أو من أسوأ إلى سيء في مداورة إيرانية العناصر وبمباركة أميركية تراوح على لحظة الاحتلال دون أي اعتبار للتخريب في بنية المجتمع العراقي أو للمجازر والإبادات.
هل حقاً الولايات المتحدة الأميركية لا تمتلك الرؤية الكافية لإعادة حساباتها وفق الإحصاءات، ولا نقول وفق التزاماتها كدولة محتلة أو كدولة عظمى أو كدولة تحت كل المسميات لا يمكنها أبداً أن تتنصل من الاعتراف بأنها مشرفة أو متبنية للنظام السياسي في العراق، وهي تتولى قيادة التحالف الدولي ضد إرهاب داعش الذي كان سبباً لتمدد الإرهاب الإيراني في المنطقة، كما أنها في مقدمة الدول الموقعة على الاتفاق النووي، أو بالأحرى الدول الموقعة على تفويض إيران بالتمدد واكتساح ميليشياتها وفتنتها الطائفية لأكثر من بلد عربي؛ إذا كانت أميركا مصرة على ثقتها بأحزاب وقادة العملية السياسية في المرحلة المقبلة، فهذا يعني تناقضاً صريحاً مع وصفها لإيران كدولة أولى راعية وداعمة للإرهاب في العالم.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال فترته الرئاسية التي تقترب من إكمال عامها الأول، وفي قراره نقل السفارة الأميركية إلى القدس بعد اعترافه بها كعاصمة لإسرائيل، يبدو أنه ينفذ تعهداته لناخبيه تباعا ودون تردد أو مبالاة بالأصداء في داخل أميركا أو خارجها، كما في قضية القدس الحساسة جدا.
بهذا المنطق يمكن قراءة رؤيته لسياسة إدارته في العراق، أي إن العراق على قائمة تطبيقاته في استرداد نفقات الحرب المكلفة لإزاحة النظام العراقي الوطني السابق وإحلال نظام أقل ما يقال عنه إنه نظام محاصصة طائفي بنظام ميليشياوي مؤدلج بعقيدة الحرس الثوري الإيراني.
الرئيس ترامب في حملته الانتخابية وردا على سؤال يتكرر ويتعلق بسيادة العراق، كانت إجاباته تكتفي بالقهقهة؛ وذلك ما يفترض أن نتوقف عنده لتفسير ما يجري من اندحار أمام داعش، أو انتصار على داعش، أو تأييد بعض الميليشيات لرئيس الوزراء حيدر العبادي نكاية برئيس الوزراء السابق نوري المالكي في موجة تطريب خطابي لما قبل الانتخابات المقبلة وبجملة قرارات و”هوسات” شعبية عن حل الميليشيات التي بدأت تتناوش حل الحشد الشعبي بحالة لا شعورية من جهات فاعلة فيه لأغراض مسايرة التوجهات والميول السياسية، في أعقاب انتصار ملامحه مزدوجة تتقاسمه الدولة كنظام حكومي أو كنظام ميليشياوي.
ليس شيئا جديدا التعاون بين الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني، أو التواجد في قواطع عمليات لبنان والعراق وسوريا واليمن، أو في دول مازالت فيها الميليشيات بأدوارها السرية والتي ستطفو إلى السطح عند اكتمال أدواتها أو في حالات الكشف المبكر عنها.
تتفاخر القيادات الميليشياوية بالتعاون الميداني في خطبها وتصريحاتها، أما الضجة الأخيرة حول تواجد عناصر منها عند الحدود اللبنانية فهي تسريب إعلامي مقصود بتوقيته اللبناني وتوقيته الإيراني. وطبعا التوقيت الإيراني هو الأهم لأنه يؤكد على هيمنة قرارها على المنطقة عموما في تجاوز معتاد حتى على “مانشيتات” أتباع المشروع الإيراني في العراق الذين يسايرون حماسة حزب الدعوة الحاكم حول السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقل.
مقولة حصر السلاح بيد الدولة، من الرئيس الأميركي إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى رؤساء دول آخرين، هي مجرد نصائح تقليدية للبدء بصفحة جديدة بعد مآسٍ متصلة. الأمم المتحدة أيضاً تأمل في ذلك، لكن التصريحات بشأن تقييم زعماء الميليشيات أو قادتها السياسيين لا تلقى عقولا وآذانا صاغية، إلا إذا صدرت ربما من مراجعة استراتيجية لضمان تحقيق أهداف التداول السياسي للمشروع الإيراني.
لذلك فإن فكرة دمج ميليشيات الحشد الشعبي في القوات العسكرية النظامية تأتي بمثابة كارثة أخرى لتحويل ما تبقى من الاحترافية والمهنية إلى مسارات عقائدية؛ وهذا ليس اتهاما بل موضع تباه بغايات تشكيل الحشد الشعبي، على حد قول قادتهم في ضرورة التأثير المنسجم مع نظرية ولاية الفقيه لتأسيس جيش عقائدي.
الميليشيات في العراق كانت موجودة قبل الحشد الشعبي وقبل القتال مع داعش، وكان بإمكان حشود المتطوعين بعد فتوى المرجعية أن يزج بها في ألوية وفصائل تابعة بإدارتها وحركتها ضمن الفرق العسكرية، وهي عمليات سوق تديرها وفق ضوابط معظم جيوش العالم في حالات الحروب أو الكوارث، ونتائجها مضمونة ولا تحتمل الخروقات أو لزوم إصدار قوانين مثيرة للاختلاف كما في النعرات الطائفية داخل البرلمان والمجتمع العراقي.
الالتفاف على الوطن أو الأوطان بلعبة الميليشيات العابرة للحدود، لعبة خطرة لن تؤدي إلا إلى تهاوي بقايا القوانين الراعية للمواطنة، إذ لا معنى للدستور في وجود ولو فصيل واحد يؤدي واجباته الأمنية بإشراف طائفي وبمرجعية سلاح يقررها رجل دين أو رجل سياسة، وكلاهما بأهداف فرض الإرادات وسلطات المنابر الخاصة.
كذلك قوات البيشمركة الكردية، كان لزاماً عليها وعلى قادتها ومنذ سنوات أن يتم تحويلها إلى جيش وقوات نظامية بكامل معداتها وأزيائها كما في الجيوش المعاصرة، وضمن واجبات الحماية والدفاع عن الإقليم. إنها حسابات يمكن من خلالها توفير رؤية مختلفة لواجبات البيشمركة ومهماتها ومستقبلها كذلك؛ وإلا بماذا تختلف عن شكل ومضمون الميليشيات.
الدوافع وراء مغريات الخصوصية، قومية كانت أو دينية أو مشاريع عقائدية، لا تعمر طويلاً ولن يكتب لها النجاح لأنها أشبه بتوصيلة بين مرحلتين من هشاشة السيادة والأمن وفوضى السلاح وارتباك الغايات والأهداف. حصر السلاح بيد الدولة لا أحد يختلف فيه، لكن أي دولة نقصد، والواقع يتجه لتحويل حتى الدول إلى ميليشيات في خدمة المشروع الإيراني.