لا يفرح أحد بالفوضى وحرق المباني وتهشيم السيارات وتخريب المؤسسات، ولكن المسؤول عن كل ذلك، إذا ما حدث، هو الحاكم الذي لا يحترم شعبه ولا يخاف منه إذا غضب.
وتنفجر الجماهير الصابرة، عادة، حين تفقد صبرها. وقد تفقد وعيها أيضا، خصوصا إذا بلغ التعدي على حقوقها وكرامتها وحريتها ورزق عيالها حدودا لا يعود في طاقتها احتمالها. وقد كان متوقعا أن يحدث في بغداد والبصرة والعمارة والناصرية والنجف وكربلاء، من زمن طويل، ما حدث في السليمانية، مؤخرا، وفي مدن أخرى في الإقليم.
ومعنى هذا أن جماهير كردستان أكثر وعيا وشجاعة من جماهيرنا العراقية الأخرى، حين أعلنت أن الفاسدين ليسوا من حزب واحد، ولا من فئة أو عشيرة أو مدينة واحدة، وأن الكلام عن محاربة الفساد دون اجتثاثهم من جذورهم، وبحملة واحدة، دون تمييز بين فاسد وآخر، فإنه يظل كلاما لا قيمة له.
ولا تطالب الجماهير الكردية المتظاهرة بأكثر من إقالة الحكومة، ومحاربة الفساد، وتحسين الوضع الاقتصادي، وشعاراتها وهتافاتها أوضحُ رسالة كتبها المنتفضون بالقلم العريض “يسقط اللصوص”، “الموت للبارزاني”، “يسقط الطالباني”، “تسقط الحكومة الفاسدة”.
ولأن الفوضى قد اندلعت في السليمانية، بالإضافة إلى مناطق تابعة لمحافظة أربيل، فإن هذا يعني أنها ليست فبركة إيرانية تجعل السليمانية منطلقا لفرض هيمنتها على أربيل، بذريعة محاربة الفساد، بالتفاهم والتناغم مع من يقال عنهم إنهم أكراد حيدر العبادي وقاسم سليماني، بل إن بعض من ثارت عليهم السليمانية ومدنُ الإقليم الأخرى هم أكرادُ إيران وجواسيسها.
ويعني أيضا، أن جماهير كردستان آمنت، بعد صبر طويل، بأن الطاقم السياسي القديم، قد بلغ أرذل العمر وأصبح غير صالح للاستخدام، وأن عليه أن يرحل بالتي هي أحسن، أو بألسنة اللهيب وقناني الغاز.
وما يؤكد أنه واقعٌ جديد وليس معارك نفوذ بين هذا الحزب وذاك أن المتظاهرين لم يُؤمِّروا عليهم أي واحد من القادة السياسيين السابقين، حتى أولئك الذين عُرفوا بالنزاهة والوطنية، ومنهم، بل أهمُهم الدكتور برهم صالح الذي يحظى باحترام كبير ليس من جماهير الإقليم بل من ملايين العراقيين، ومن حكومات وجماهير عربية وأجنبية عديدة.
والسؤال المهم هنا، هل ستلد الجماهير الشعبية الغاضبة في كردستان قادتَها السياسيين الجدد الأصلح من الفاسدين، والأكثر نزاهة ووطنية، أم أنها، مثلُ شقيقتها العراقية الأخرى، ستهدأ غدا أو بعد غد، وتعود لسُباتها من جديد، أم تنتصر ثم نتبين بعد قليل أن الجبل تمخض فولد قادة لا يقلون عن أسلافهم فسادا وانتهازية وموتَ ضمير؟
والمحزن أن الجماهير في القسم الثاني من العراق لم توقظها انتفاضة كردستان على الفساد والفاسدين، وكان واجبا على نُخَبها السياسية التقدمية المنادية بحقوق الإنسان وسلطة القانون أن تُشعل انتفاضة مؤازِرة ومناصرة لشقيقتها في الإقليم.
وبالمناسبة، هدد رئيس الوزراء حيدر العبادي قائلا “لن نقف مكتوفي الأيدي أمام الاعتداء على أي مواطن في إقليم كردستان”، ولكنه وقف مكتوف اليدين والرجلين معا، حين هاجمت ميليشياتُ رفاقه في الحشد الشعبي وفي حزب الدعوة المتظاهرين في بغداد والناصرية والنجف والحلة والبصرة، بالهراوات والمسدسات والعصي المكهربة، وفعلت بها أكثر مما فعلته حكومة الحزبيْن الكرديين بمواطنيها الذين لا يريدون منها سوى الماء والزاد والكرامة وحسن السلوك.
والذي لا تنكره حكومة بغداد أن لها النصيبَ الأكبر في إخراج الجماهير الكردية عن صمتها، بالإجراءات الانتقامية التي اتخذتها، وبالعقوبات المتشددة التي تصرُّ على استمرار فرضها، حتى بعد أن تخلت الحكومة الكردية عن نتائج الاستفتاء، وأقرت بسلطة المركز على كل شؤون الإقليم، بذريعة الدفاع عن الشرعية والسيادة وهيبة الدولة وحدودها، الأمر الذي تسبب في ركود اقتصادي أجبر العشرات من الشركات المحلية على تصفية أعمالها، وطرد عمالها وموظفيها، مع غلق مطارات السليمانية وأربيل، وإرغام المسافر، من الإقليم وإليه، على العبور من مطارات أحزاب السلطة وميليشياتها.
يعني أن العبادي الذي يهدد بأنه لن يقف مكتوف اليدين عند الاعتداء على متظاهر كردي واحد لم يتردد، في الوقت نفسه، في خنق الملايين من المواطنين بحجة معاقبة رئيس الإقليم (المتقاعد) مسعود البارزاني. فكيف وأين ومتى تَزر وازرةٌ وِزرَ أخرى؟ عجايب!