منذ عقود خلت لم تفارق العراقيين دوامة البحث عن حلول لمشاكلهم دون جدوى، حتى صار البحث عنها شغلهم الشاغل، بدل البحث عما يعينهم على مواكبة التطور الذي تعدو فيه بلدان العالم عدوا. والحديث عن مشاكل العقد ونصف العقد الماضي بات عقيما، ذاك أن أس المشاكل وأساسها يتجدد ويتحدث كل حين بطريقة الـ (automatic update) وعلى مايبدو أن هناك متخصصين باستحداثها والإتيان بالجديد منها بين الفينة والأخرى دون كلل او ملل، إذ مافتئنا نعيش همومنا المتزايدة من يوم إلى يوم، ومن عام الى عام، ومن حكومة الى حكومة، فكأن الحزن مختوم على العراقيين منذ عقود او قد تكون قرونا مضت. إذ عكس مايشغل سكان الأمم التي تلت حضارتها حضارة بلاد وادي الرافدين، تشغل بالنا اهتمامات يومية عديدة، لاتتجاوز السؤال عن الكهرباء وزحامات الشوارع والتفجيرات والتموينية، وكذلك التحسب من غيمة تبدو في السماء خوف المطر وغرق منازلنا، فضلا عن هموم القلق المتزايد من انحدار خط اقتصاد البلد البياني، وتقاطعه مع مصدر قوت المواطن ومعيشته.
ولو استذكرنا يوميات العراقيين في الأعوام السابقة، تبرز صورة التشكي والتذمر والامتعاض فيها، إذ مااجتمع عراقيان صباحا أو مساءً، غدوة أو رواحا، قياما أو قعودا، إلا وذهب بهما الحديث الى الترديات والإخفاقات بمفاصل الحياة في البلد. وهو الهم الذي باتت علامات الاستفهام والتعجب تتسع فيه، وأمست أصابع الاتهام لاتكفي لعد الأسباب وتعداد المتسببين به، فعشرة أصابع لاتفي بحساب الأعداد الهائلة من الشخصيات التي تقف وراء المصير الذي آل اليه البلد.
فبدءًا.. الهم المتوارث في كل عام والذي يتعلق بالموازنة العامة، إذ أضحى سيد الهموم السنوية دون منازع، وقد تناسلت منه هموم أخرى كثيرة. كما لتفشي الفساد المالي والإداري في مفاصل المؤسسات والجهات المسؤولة عن الخدمات، باع طويل وحضور فعلي في جملة الهموم المتراكمة، والذي يحزن المواطن المهموم أنه في واد وساسته ومسؤولوه في واد ناءٍ عنه، وما همومه كلها إلا نتاج صراعاتهم ومناكفاتهم و(مناگراتهم) في وقت كان حريا بهم جميعا ان يوحدوا النية الخالصة والكلمة الصادقة والتصرف السليم، لتلد لهم مجتمعة قرارات صائبة، تسفر عن أداء جيد في الواجبات خالٍ من التقصير، وبالتالي تنجلي هموم رعيتهم بفضل الحلول الناجعة التي تأتي بالتوقيت المناسب، لابعد فوات الأوان. ولقد قيل سابقا: الأفكار الجيدة تأتي دائما متأخرة، ويقول مثلنا بلهجتنا الدارجة: (الماحصد بأول صباته، يبس زرعه والوكت فاته)، كذلك قالوا: خير البر عاجله، وقال شاعر:
أتت وحياض الموت بيني وبينها
وجادت بوصل حيث لاينفع الوصل
فوات الأوان إذن، هو آفة الحلول، إذ ينعدم النفع منها إن جاءت متأخرة، ومايؤسف أن هذا بات دأبنا الذي أدمناه، فاعتدنا التقاعس في استنهاض عقولنا في الوقت المناسب لإيجاد الحلول والمخارج لما نقع فيه من مآزق في توقيت صحيح، وما نجنيه اليوم هو زرعنا فيما مضى، فمادمنا أسأنا في الزرع نحصد سوء فعلنا، وقد قيل؛ من يزرع الريح لايجني غير العاصفة. ولحى الله شاعر الأبوذية الذي حاكى بيت القريض آنف الذكر، حيث قال: