ليث العبدويس
خلال تلقينا العلم على مصاطب جامعة بغداد، يوم كانت بغداد (بسطة) في العلم وليس (بصطة) لتصدير ديماغوجيات الكراهية الفئوية او أيديولوجيات الغطرسة القومية، أذكر قصةً رواها أحد الأساتذة النُجباء ممن غابت أخباره-كحال ألاف غيره ممن انطفأوا مع ميلاد ديمقراطية الموت- فلم نعثر له على أثر، ولعلّه اليوم تحت (الثرى) بفعل موجة عربدة دمويّة، او فوق (الثُريا) هُناك في عُلب اللجوء والاغتراب، وهي قصة قد تعوزها المصداقية او التوثيق دون أن تفتقر للدلالة والمغزى بحيث أن حوارياتها –لفرط عُمقها وثرائها- لا تزال تنبض في الذاكرة كأنها جرت بالأمس لا من زمنٍ غابر، ومفادها-بتصرّف يسير-أن بعثةً تبشيريّةً إنجيليّة -إبّان الاحتلال البريطاني- عقدت العزم على (إنقاذ) أرواح جمعٍ من فلاحي الجنوب البُسطاء عبر إنشاء كنيسةٍ متواضعة تأوي إليها أفئدة أولئك (الضالين) الجهلة، وارتأت البعثة المُتفانية (إخلاصاً وتقوى) تزويد (مملكة السماء) الصغيرة هذه بمولدٍ كهربائي-لا اشُكُّ في عراقيّة وقوده-كيما تنبهر عُقول ذلك القطيع الرث بأنوار الحضارة المسيحية، وطالما أن العينة المُنتقاة كانت تَفِد على (بيت الرب) بعد كد النهار الطويل في حُقول مُعتَمدي سُلطة الاحتلال ووكلائه، فسيكون من اللائق (ضيافة) القوم بكأس ساخنٍ او أكثر من حساء الجيش الانكليزي وبعضٍ من خُبزه الطافح بياضاً وعافية ولؤماً.
وهكذا، ومع كُل مساءٍ كان المُزارعون المسحوقون جوعاً وقهراً يتحلقون-تحت أضواء الفلور المُبهرة-ليستمعوا-ذاهلين- إلى مواعظ عن (كلمة الله) وروحه والولادة العذرية والكهف البارد وروح القُدس المُتجلّي والملكوت العِلوي والكهنوت النصراني واللاهوت الحالّ في الناسوت والأب الذي فدى البشرية بفلذة كبده الوحيد والجلجلة والآلام، …الخ، ولا ريب أن القساوسة المُتحمسين قد لمسوا-ربما-شيئاً من الاستجابة عند ذلك الجمع المسكين المُطرِق، ثمة همهمات، وبكاء صامت، وحشرجة خفيّة، تختلط مع أصوات ابتلاع الشوربة الانجليزية، أجل، هناك أمل واعد في التحاق هؤلاء بركب المسيح وتحولهم لجنوده البررة!!.
لكنَّ انعطافة حاسمة ألقت اليأس في قلوب الدعاة الأطلسيين الحُمر من امكانية جذب هذا الرهط الخام لجادة (الحق) وطريق النجاة!!، فذات جلسة دعوة باكية عاصفة، وقُبيل وجبة الحساء المُنتظرة، تعطّل (الديزل) وخبت أضواءُ المُعسكر الكنسي فجأة، وغرق (الخراف) في ديجور عُتمة ذكّرتهم بانقباض الروح في أكواخِهم الضاجّة قملاً وسُعالاً وبعوضاً، فخفَّ أحد القساوسة ليُصلح من الماكنة السحرية ما فسد ويُديم منها ما انقطع، فلما تدفق النورُ مُجدّداً مُغشياً أبصار القرويين السُذَج، صاحوا بتلك النغمة التي اتقنوا-بلا وعي-مدّها وتقعيرها وتحديبها:(اللهم صلِ على محمد وآل محمد)!!.
تدفع هذه القصة المجهولة النسب والراوي بإشكالية مؤبدة تتعلق بالنكهة الدينية الحادة للصراع العراقي البيني، إشكالية واحدٍ من (أكثر شُعوب الأرض تعصُّباً وأقلها تديُّناً) على حد وصف محمد جلال كشك للمُجتمع اللُبناني- صنو مُجتمعنا في التعصُّب المذهبي-، العراقيون مُتدينون بالوراثة لا عن بصيرة، فالتشيُّع والتسنُّن يبدو-من منظور الطباع العراقية المتمدينة النزّاعة للدنيا ومطايبها والتائِقة لحظوظ الأنفس- مُجرّد تركةٍ إجبارية الاستيراث وجلباباً ثقافياً وجدناه بين متاع آباءٌ ورثوه هم بدورهم عن أجداد لم نرهم، فهو-الدين ولواحقه الخلافيّة او الاختلافيّة- قدرٌ قسري لم نختره-كأسمائنا-، كما أن العراقيين مؤمنون بالعادة لا بالعبادة، كُلُّ محجِ وزيارة وشعيرةٍ ونافلة او واجبة هي اداءٌ لا إرادي وانقباضٌ غير مُسيطرٌ عليه لعضلة الدين الضامرة، ثمّة تُراثٍ هائل من الأقاصيص والحكايا ورُكامٌ من المعاني والقيم والتصورات عن الذات والآخر في حافظة ووعي ولا وعي كل عراقي، وهو تُراث فشل دائماً في غرس بذرة توافق يُمكن أن تُجسر العلاقة بين ضفتي الإفراط والتفريط، هُناك بوصلة غامضة غارقة في بحر النفس العراقيّة تُشير دائماً نحو (معبد) ما، لكنّها بوصلة تأثرت بمجالات التمغنُط ومدارات الجذب الُمتنافرة، فلما سكن كُل شيء، لم يبدُ من الغريب او الاستثنائي أن ينفرط عقد العراقيين مع زوال الكابت وانطلاق المكبوت، وان ينطلق كرنفالهم المصطبغ بالمجازر والجُثث والأشلاء بِمُجرّد سُقوط (الصنم)، وأن ينهمكوا-خلال عُرسهم الدموي- بإبادة أعداء (المعبد) الذي تسمّرت نحوه أبرة البوصلة الدينية الُحرّة-أخيراً-، أضِف على ذلك أنّ مسائل (الكُفر والإيمان) عند العراقيين نسبيّة، وهي نسبيّة قد تتعدّى إطار الجماعة لتخترق حواجز التاريخ، فما يُعدُّ (نُكوصاً) وفُحشاً عند غيرهم قد يعني لهم تمام التقوى ومن لوازم الدين، والعكسُ صحيح، وما كان قد دأب عليه أجدادهم قد يرونه لاحقاً نقيصةً وفُسقاً ورِدّة، والعكس صحيحٌ كذلك!!
أنحاول الأن-تحت وخز ضميرنا الوطني-تبرئة العراقيين من لوثة التديُّن المُفاجئة وهذيان المعابد المُخيف وصُداع (شقيقة) التقوى؟ وهل يُجدي سترُ جرح التمزُّق الطائفي الغائر المُسمّم بشيءٍ من ضماد الكبرياء الوطني فيما ينزف البلد-حتّى الموت- تحت لفائف الثارات المُستيقظة كُلَّ ذي (نمر)؟، لقد زحفت (إشكاليّة) التدين العراقي تدريجيّاً نحو فخّ (المُشكلة) الدينيّة لتنتهي إلى الكارثة الطائفيّة، وهي، خلال ذلك (الارتقاء القميء نحو القاع) او (الصعود باتجاه الأسفل) لم تنفك عن استجماع طاقة رُعب مكبوتة مُدمّرة، مُزمجرة، عاتية، في منحنٍ تصاعُدي من نقض النقض العنيف، إنَّ عملية التأكُل الذاتي والتدمير الإرادي للنفس والجيل والمُستقبل ماثلةٌ على المُستويات كافة، فالطائفيّة القوميّة تُلهم الكُرد اليوم فكرة الغيتو والانسلاخ التام او الموت الزؤام، تماماً كما توحي للعرب على ضفتي شاطئ الخراب العراقي السُنيّة/الشيعيّة أن يُقيموا كانتوناتهم المُزدوجة الاثنية (قوميّة-طائفيّة) دون أن نتجاهل تجديد الخِطاب الأيزيدي والشبكي والآثوري والكلداني، … الخ، والطائفيّات الدينيّة تتصادم بوحشيّة لا نظير لها، تتهارش، تتناطح، تمتزج في اشتباك الحياة او الموت على حلبة صراع إقليمي مُصغر عن صراع الحضارات، والكُلُّ يُهاجم الكُل دونما مُراعاة يسيرة لحق الأبرياء في مُجرد الحياة، فالقاعدة لم تتلاشى سوى لتفسح المجال أمام تسلُّل (داعش)، تلك البجعة السوداء الصفيقة التي أنهت حُلم الربيع العربي، والميليشيات المُهتاجة-هي الأُخرى- تستنسخ ذواتها على صورةٍ حادّةٍ وغامقة، والجميع-في رحلة صعودهم نحو الحضيض-يتقرب للسماء بدماء مُخالفيه ويتجاهل عمداً أنَّ ثمّة وطنٍ خرموا-برصاصهم الأعمى-كُل فرصه الممكنة للنهوض مُجدّداً من عالم الأموات وقتلوا جميع خياراته المُستقبلية بعد أن لوثوا الغدَ نفسه.
حسناً، لعلّنا-من جانب- نفخر بأنَّ تلك البعثة التبشيريّة التي فشلت في (تنصير) ذلك الجمع المُهلهل من الفلاحين العراقيين الجنوبيين الأتقياء قد عات لإنكلترا بِخُفي حنين، وأنّنا لم نُغمض أعيُننا-خلال مواعظهم البريئة-لنفتحها على أرض مسلوبة مُقابل (إنجيل) في اليد، لكنّنا-من جانب آخر- صرنا أقرب من اي وقتٍ مضى لفهم جُملةٍ من الحقائق الجارِحة، لعلَّ من أهمها أن لا خوف على إيماننا من الضياع-فالإيمان في النهاية ليس صبيّاً مُصاباً بالتوحُّد لينفلت من يد والدته ضائعاً في الزحام-، بيد أننا فقدنا الثقة بخدمه المُتعجرفين، فهم-في الواقع-لا يعبدون سوى أنفسهم، وإن كُلّ شُموع الأمل في هذه البلاد يُطفئها دائماً الحاخاماتٌ المُزيّفون، وأنَّ نُسخة الإسلام التي تُروج لها صالونات السياسة تجعل القلب يحتقن حقداً بدل أن يفيض سماحةً وحُبّاً، وأنَّ عراقاً تنتشر فيه دكاكين الخرافة كانتشار البُثور على الوجه المليح هو عراقٌ مريض بالجُدري الطائفي، وإنّنا-على حد قول هيلين كيلر- لو أنفقنا الجُهود التي نُنفقها على مُحاربة الشيطان في محبّة الإنسان، لمات الشيطان غيظاً وكمداً من تلقاء نفسه.
فيا رب: احمنا من شرّ أتباعك!!