كتب أحدهم عبارة فيسبوكية مضطربة ولامعنى لها والعبارة على هذا النحو (حين يفشل المثقف عن تحقيق مشروعه يتحول الى ممثل مسرحي لا يجيد سوى التصفيق) لا تحتاج العبارة الى جهد قرائي من نوع ما ليتوصل الى الحكم بشأن مجانيتها ومن ثم محاولة تقويضها فالعبارة مقوضة بالأساس لانها لم تنطلق من أرضية لغوية صالحة ولا تستند إلى دلالة فكرية ولا يحدها سقف لإنتاج المعنى فهي تسرح في فضاء حر من اللامعنى، فما معنى حين يفشل المثقف يتحول إلى ممثل؟ أليس الممثل مثقفا وهل يوجد ممثل يصفق ولمن يصفق؟ الممثل هو من يحظى بتصفيق جمهوره الذي يضم شرائح وأطيافا مختلفة بينها المثقف والمفكر وشرائح اجتماعية أخرى تمتلك الأهمية نفسها. في هذا المفتتح لا أسعى إلى التوقف عند هذه العبارة المضطربة فقد أشرت إلى أنها عبارة مقوضة بالأساس ولكني أسعى إلى اتخاذها أنموذجا للتصورات الهذيانية الخاطئة حول دور الممثل/ الفنان في إنتاج الثقافة والمعرفة ودور السينما بشكل عام في هذا الإنتاج ومن ثم إعطاء درس إزاء هذه التصورات يسهم بتسليط الضوء على دور الفن والفنان في إنتاج المعرفة, ففيما يخص الفنان / الممثل سواء كان هذا الممثل مسرحيا فهو متورط بالفلسفة والمعرفة في سياق ما توفره النصوص المسرحية من مناخات معرفية وفلسفية أو إذا كان هذا الممثل سينمائيا فإن المناخ المعرفي والفكري توفره السيناريوهات العظيمة بالإضافة إلى خاصية تقمص الشخصيات بأبعادها الثقافية والسيكولوجية وهي خاصية تحتاج الى موهبة لا تتوافر الا عند الممثل بشكل خاص . ان دور السينما في انتاج الثقافة والمعرفة يتصل بشكل عام بدور الكادر الفني في صناعة السينما وفي هذا السياق سأتناول فيلم الخيال العلمي {اليوم بعد الغد} من إخراج رولان إيميريش ومارك جوردن ومن تمثيل جيك جيلنهال وايمي روسوم، بوصفه أنموذجا في صناعة المعرفة، وان اختيار أنموذج من الخيال العلمي يأتي بقصدية في هذا المجال باعتبار أن هذا النمط من الأفلام لا يباشر المعرفة والثقافة وإنما هذه (أي المعرفة والثقافة) تظل أنساقا ثاوية في بنية الفيلم, لأن هذا النمط من الأفلام يقوم على عوالم افتراضية وأحداث متخيلة تحاول أن تتقرب إلى منطقة التحليل العلمي. تدور أحداث هذا الفيلم حول نهاية العالم كما نعرفه وبداية عصر جليدي يهدد البشرية وبازاء هذا التهديد يقترح عالم المناخ (هل) الممثل دينيس كويد، أن يغادر سكان أميركا إلى الجنوب وتحديدا الى دول العالم الثالث، لكنه يواجه مشكلة وجود ابنه في قلب العاصفة على رأس رحلة مدرسية تلجأ لمواجهة خطر العاصفة إلى المكتبة الوطنية، يؤمن (هل) اتصالا مع ابنه ويخبره أن يقاوم لعشرة ايام فقط عن طريق إحراق كل شي يصادفه، لا يجد الابن سوى كتب المكتبة فيقترح إحراقها لكنه يواجه معارضة من قبل محبي المعرفة من موظفي المكتبة، لكنهم بعد ذلك يقتنعون بشكل جزئي بإحراق بعض الكتب ومع اشتداد البرد تسير عملية إحراق الكتب بشكل عشوائي، لكن أحد الموظفين يشاهد كتب نيتشة بيد فتاة فيخبرها أنه اعظم فيلسوف في القرن التاسع عشر فتجيبه تبا له انه كان شوفينيا حقيرا ومهووسا بأخته، فيدعها لقناعته إذا كانت أفكار نيتشة بل وحياته الشخصية أيضا محفوظة من قبل فتاة صغيرة فإن حرق الكتب من أجل إنقاذ الإنسان يكون أجدى، دلالة أخرى تنتج ضمن هذا المفصل ان الكتب كما أنقذت الروح الإنسانية فإنها كفيلة بإنقاذ الجسد الإنساني بوصفه وعاء معرفيا . المحور الأساس الذي يطرحه الفيلم هو التواصل الحضاري ضمن مقترح عالم المناخ بالهجرة إلى العالم الثالث لاسيما مع صعود أوباما بحسب تاريخ إنتاج الفيلم، حيث ينتهي الفيلم بانتهاء العاصفة والعودة التدريجية الى الحياة مع تصريح لأحد المسؤولين الحكوميين بالامتنان الى دول العالم الثالث التي أسهمت بانقاذ الشعب الأميركي من الهلاك، وهذا ما يعلمنا درسا في ضرورة التعايش الحضاري بين سكان العالم وضرورة اختفاء التقسيم الطبقي بينها، الفيلم يحتاج إلى وقفة طويلة، لكن يمكن القول ضمن هذا المختزل هل توجد طرائق في إنتاج المعرفة أسمى من طرائق الفن ؟.