ديمقراطية الطوائف والأعراق في عراق الشيعة

ديمقراطية الطوائف والأعراق في عراق الشيعة
آخر تحديث:

بقلم:علي جاسم ياسين

منذ أن سُمّي ما بعد عام 2003 بـالعراق الديمقراطي، لم تكن المشكلة في الفكرة ذاتها بقدر ما كانت في البنية الاجتماعية والسياسية التي تبنّتها. فالديمقراطية، كما يُفترض، هي حكم الشعب لنفسه عبر آليات المشاركة والمساءلة والمواطنة المتساوية. غير أنّ ما جرى في العراق لم يكن انتقالا إلى حكم الشعب، بل إلى اقتسام الشعب بين طوائف وأعراق، كلٌّ منها يدّعي تمثيل الأغلبية أو الدفاع عن الحقوق التاريخية. وهكذا تحوّل مفهوم الديمقراطية من أداة توحيد إلى وسيلة تفريق، ومن ساحة تنافس مدني إلى ميدان صراع طائفي مزمن.

في عراق ما بعد السقوط، رُسمت الخريطة السياسية على أساس المكوّن لا على أساس الكفاءة أو البرامج. صار الانتماء المذهبي بطاقة العبور إلى السلطة، وغدا الولاء للطائفة أهم من الولاء للوطن. وما إن استقرّت قواعد اللعبة حتى تحوّلت الديمقراطية إلى محاصصة مقدّسة، تُوزّع فيها المناصب لا على أساس الاستحقاق، بل وفق ميزان دقيق من التوازن الطائفي والعرقي. بذلك نشأ نظام لا هو ديمقراطي خالص، ولا هو سلطوي صريح، بل خليط من الاثنين، أُضيف إليه طابع قبلي وطائفي جعل الدولة تبدو وكأنها شركة مقاولة يديرها زعماء الجماعات المتناحرة.

أما في عراق الشيعة وهو التعبير الذي شاع للدلالة على الغلبة السياسية التي نالها المكوّن الشيعي بعد عام 2003 — فقد تجلّت المفارقة الكبرى. فبدل أن تتوحّد الأغلبية حول مشروع وطني جامع، تفرّقت على نفسها أحزابا ومراجع واتجاهات، يتنازعها الخارج بقدر ما ينهشها الداخل. ولئن كان يُفترض أن يكون حكم الأغلبية فرصة لبناء العدالة والمواطنة، فقد تحوّل إلى مهزلة ديمقراطية الطوائف، حيث استُبدل الاستبداد القديم بفساد جديد، ورُفع شعار الحرية لتُغطّى به العجز عن إدارة الدولة.

أمّا المواطن الشيعي، الذي انتظر طويلاً أن تتحقق أحلامه بعد عقود من التهميش، فقد وجد أن دولته تُدار باسمه لكنها لا تعبّر عنه. يذهب إلى الانتخابات وهو يعلم أن النتائج محسومة بين زعامات تتقاسم الغنائم في الخفاء. فصناديق الاقتراع تُملأ بالأصوات لا بالثقة، والخطابات تُرفع باسم المذهب لا باسم الوطن. وما بين الولاء الديني والانتماء الحزبي، ضاع العراق في زحمة الشعارات.

التنبؤ بالمستقبل في ظل هذا الواقع لا يحتاج إلى نبوءة، بل إلى فهمٍ واضح لمنطق التاريخ. فلا دولة يمكن أن تنهض على أساس الطائفة، ولا ديمقراطية يمكن أن تُبنى بغير مواطنة متساوية. استمرار هذا النمط من الحكم سيؤدي، عاجلا أو آجلا، إلى مزيد من الانقسام الداخلي. فحين تتحوّل السياسة إلى ساحة لتوزيع الحصص، يغيب المشروع الوطني، ويضيع الإبداع، ويتحوّل الشعب إلى جمهور متفرّج على مأساة لا تنتهي.

ومع ذلك، تظل في قلب هذا المشهد العابس ومضة أمل. فجيلٌ جديد من الشباب، سئم الطائفية وملّ الوعود، بدأ يدرك أن الخلاص لن يأتي من فوق، بل من وعيٍ جمعيّ يرفض منطق المكوّنات، ويعيد تعريف الوطنية بمعناها الإنساني لا الطائفي. هؤلاء، إن أتيح لهم التعبير بحرية، قد يشكّلون النواة الأولى لعراقٍ جديد، لا يُبنى على الطوائف بل على العدالة، ولا يحكمه توازن الأعراق بل سيادة القانون والمواطنة.

في النهاية، تبقى ديمقراطية الطوائف مهزلة لأنها تُفرغ الديمقراطية من معناها الحقيقي. فحين يُقاس الإنسان بانتمائه لا بفعله، وحين تُدار الدولة كغنيمة لا كمسؤولية، تصبح الانتخابات طقسا شكليا لتجديد شرعية الفساد. والعراق اليوم يقف أمام مفترق طرق: إمّا أن يعيد تعريف دولته على أساس مدني جامع، أو أن يستمر في الدوران داخل حلقة الطوائف والأعراق التي تحوّل ديمقراطيته إلى مأساة متكرّرة بأسماء مختلفة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *