حتى في الديمقراطيتين الأعرق، بريطانيا وفرنسا، وفي الديمقراطية الأكبر، الهند، ما مِن رئيس برلمان ولا أحد غيره يرى في رئيس السلطة التشريعية ملاكاً نازلاً من السماء برسالة، أو إماماً معصوماً من الخطأ والخلل والزلل، فما بالكم بنا، هنا في العراق الذي لا يرد ذكره في قوائم الدول إلّا في الذيل في ما يتعلق بالمحاسن وفي القمّة في ما يتعلّق بالمساوئ، وفي مقدمها الفساد الإداري والمالي والفشل في إدارة الدولة وانهيار نظام الخدمات العامة،على سبيل المثال.
رئيس مجلس النواب عندنا الذي لم يبلغ بعد عمر وظيفته العامة الجديدة هذه أربعة أشهر، ارتكب أخطاء وتجاوزات وانتهاكات قانونية ونظامية اعترض عليها واحتجّ زميلات وزملاء له في المجلس، قبل أن تُواجَه بالانتقاد، بل حتى السخط ، من الإعلام وأوساط الرأي العام المختلفة وقوى سياسية.
آخر أخطاء رئيس المجلس الحالي وخروقه للنظام الداخلي أنّه قضى بنفسه على نحو غير أصولي وغير نظامي بأنّ مرشحة رئيس الحكومة إلى وزارة التربية قد حظيت بموافقة الأغلبية في جلسة التصويت الأسبوع الماضي، ولم يكن الأمر كذلك كما أظهر البثّ التلفزيوني الذي أعاد عددٌ من أعضاء مجلس النواب بثّه عبر مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، حيث يتبيّن أنّ الأعضاء الذين منحوا المرشّحة ثقتهم كانوا 101 فقط من 251، أي أقل بخمسة وعشرين صوتاً من الأصوات اللازمة لتمرير المرشّحة وترسيمها وزيرة دستوريّاً.
رئيس البرلمان خرق النظام الداخلي لأنه هو من قرّر أنّ “الموافقة حاصلة” من دون حساب أصولي لعدد الأصوات الموافِقة. والحساب الأصولي، بحسب أحكام النظام الداخلي ينهض به مقررا المجلس اللذان حصرَ بهما النظام الداخلي دون غيرهما هذه المهمة. لا رئيس البرلمان ولا نائباه ولا غيرهما من أعضاء المجلس مخوّل بإنجاز هذه المهمة.. رئيس المجلس مخوّل فقط، في مثل هذه الحالة، بإعلان النتيجة التي يقدّمها له المقرِّران حصراً.
هذا لم يحصل كما أظهر التسجيل التلفزيوني، فرئيس المجلس ألقى بنظره على القاعة وأعلن أنّ”الموافقة حاصلة”، ولم نرّ أنّ العملية قد تمّت على أصولها بقيام المقرِّرين بعدِّ الأصوات الموافِقة (من المفترض أيضاً أن تشمل عملية العدّ الأصوات غير الموافِقة والأصوات الممتنعة) وتقديمها إلى رئيس المجلس لإعلان النتيجة.. قبل هذا ما من حقّ لرئيس المجلس وغيره إعلان النتيجة.
رئيس المجلس ارتكب الخطأ وانتهك أحكام النظام الداخلي، وهذا ما حمل اثنين من أعضاء المجلس (سنّي وشيعي) إلى الاعتراض على ما فعله رئيسهم والمطالبة بإعادة عملية التصويت، مُستندَينِ إلى أحكام النظام الداخلي، لكنّ الرئيس لم يُعر اهتماماً لاعتراض زميليه ولا تشاور مع نائبيه اللذين بديا مستسلمينِ لإرادة الرئيس، كما لو كان وجودهما على منصّة الرئاسة شكليّاً وليس لهما أيّ دور في اتّخاذ القرارات أو في الاعتراض على غير الصحيح منها.
هذه الممارسة المتكرّرة متعارضة تماماً مع المبادئ والقواعد الديمقراطية ومع أحكام الدستور العراقي والنظام الداخلي لمجلس النواب، لا ينبغي السكوت عليها وتمريرها. إنها ممّا يعرقل بناء النظام الديمقراطي الذي نريد، وممّا يقوّض سمعة البرلمان ومكانته ودوره في الدولة والمجتمع، بل يمتدّ التقويض إلى وضع الحكومة، والدولة كلها، ودورها مادام هناك أعضاء فيها قد استيزروا بخلاف ما يحكم به الدستور.
الآن يتعيّن على رئيس مجلس النواب أن يوضّح للمجلس ولنا ولعامة الشعب العراقي لماذا فعل ذلك وكيف قرّر بنفسه تمرير الوزيرة. عليه أن يثبت لنا بالدليل القاطع أنّ العملية كانت سليمة وصحيحة نظامية وقانونية وأن ما نقوله هنا وما قيل داخل المجلس وخارجه يجافي الحقيقة .
نعم هذا ما ينبغي على رئيس المجلس أن يفعله الأن من دون إبطاء.. بخلافه عليه أن يستقيل من منصبه في الحال، ولا تأخذه العزّة بالإثم .. التجاوز على أحكام الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب لا ينبغي حصوله بأيّ صورة وشكل، من مجلس النواب بالذات.