إن مشكلة القادة الإيرانيين الكبار، دينيين وعسكريين وأفندية، تكمن في أنهم لا يقرأون التاريخ، ولا يتعمقون في دراسة الجغرافيا، ولايرون سوى وجوههم في المرآة، ولا يسمعون إلا غناءهم في الحمّام.فالعالم من حولهم شيء، والعالم في عقولهم شيء آخر مختلف تماما وليس له وجود حقيقي على أرض الواقع الملموس.
وذلك لأن غرور القوة قد أخرجهم من حالة الوعي إلى اللاوعي، وأخرجتهم عنصريتهم وطائفيتهم عن الطريق القويم، حتى صاروا مُصدقين بأن دولتهم قد أصبحت هي الأقوى والأكبر، وأن ميليشياتهم في العراق وسوريا لبنان واليمن أصبحت هي القوة الصاعقة الماحقة التي أرعبت أمريكا، وجعلتها تتردد وتفكر ألف مرة قبل أن تتورط في “أم الحروب”، أو أن ” تعبث بذيل الأسد”.
والظاهر أنهم ناسون أو متناسون حقيقةً تاريخة فاقعة تقول إنهم ما تمكنوا من دخول العراق إلا متغطّين بالعباءة الأميركية، وإلا بعد ما سمحت لهم أمريكا بالدخول لكي تتوكأ عليهم وتهش بهم على غنهما ولها فيهم مآرب أخرى. فهُم، حتى الساعة، لا يستطيعون تعيين رئيس أو وزير أو سفير أو حتى غفير إلا حين ترضى سفارة العم سام في بغداد، وتعطيهم ضوءَها الأخضر الثمين.
وفي سوريا كانوا ومازالوا يتدثرون بالراية الروسية الحمراء، و(يجاهدون) لنصرة الإسلام وآل البيت بصواريخ بوتين وطائراته وجنوده. وكثيرا ما نقلت لنا الأخبار أن أهمَّ ضباطهم وقادة جيوشهم يتساقطون صرعى كالعصافير لو رفع الرئيس الروسي غطاءه عنهم، مرة، إذا ما قضت بذلك أجندتُه المصلحية الخاصة وتفاهماته مع أمريكا وإسرائيل.
ومن آخر تحشيشاتهم التي يُخادعون بها شعبهم المسكين ذلك التهديد الساخن المدوي الذي طيره قاسم سليماني بقوله: إن “على الرئيس دونالد ترامب أن يعلم أننا في انتظاره”، وبقوله، أيضا، مخاطبا ترمب: “قد تبدأ أنتَ الحرب، لكنْ نحن من سيُنهيها”.
ولو كان هذا الكلام الكبير صادرا عن الصين أو روسيا، مثلا، لهان الأمر، ولقلنا إنه القضاء والقدر، وسوء الطالع الذي أوقع ترمب في شر أعماله.
ولكن حين يصدر من دولة ولدت صغيرة، وظلت صغيرة، وتبقى صغيرة، مهما امتلكت من صواريخ ومليشيات وعصابات إرهابية مسلحة، خصوصا وهي في عز ضيقها الاقتصادي والأمني والاجتماعي والعسكري والصناعي والزراعي والمائي والنفطي، فتلك مسألة تدعو إلى الضحك ثم إلى البكاء.
وتُذكرنا تهديدات سليماني هذه بالراحلين صدام حسين ومعمر القذافي والرئيس البنمي مانويل نورييغا حين بالغوا كثيرا في العزم على تحويل أمريكا إلى دولة من دول العالم الثالث والعشرين، ثم انتهوا كما كان مقدرا لهم أن ينتهوا به في طرفة عين.
وليس ذلك لأن أمريكا هي طرزان العصر الوحيد الذي لا يقهر لكي تفعل ما تريد، متى تريد، وأين تريد، بل لأن أية دولةٍ من دُولنا المنتمية للعالم المُسيَّر بالفتاوي والتداوي بالكي وبول البعير تبقى ريشة في مهب رياح الأقوياء.
ومن اللازم هنا أن نُذكر بنظريةٍ أطلقها روبرت ماكنمارا حين كان وزير دفاع جون كندي عام 1962 تقول “لنجعل الاتحاد السوفييتي قلعة مسلحة، ولكن لا تملك الزبدة”.
وها هي الدولة الإيرانية في عهد الولي الفقيه اليوم تستورد الحديد والنحاس والرصاص، وتستأجر الخبراء والعلماء، وتبحث عن الماء والدواء والغذاء. فألا يحق لنا أن نطلب من حسن روحاني أن يقول لنا بأي وجه يتحدى ويهدد بـ “أم الحروب”؟.
والشيء بالشيء يذكر. فمن يستمع إلى المقربين من دوائر القرار الأمريكي، عن كثب، وبعيدا عن الصحافة والإذاعة والتلفزيون، يتردد في تصديق جدية الرئيس الأمريكي في خنق النظام الإيراني حتى النفَس الأخير، ثم يَعتبر لهْوَه على موقع تويتر واحدا من فنون المساومات في التجارة والمقاولات.
ويُرجّح المتبحرون في علم التشفير السياسي أن تكون هناك أشياءُ أخرى وراء سطور رسائل التهديد المسافرة، ذهابا وإيابا، بين العاصمتين، ولكن مكتوبة بالحبر السري ولا يستطيع رؤيتها إلا المنجمون.
أما الذي لابد أن يكون، وسوف يكون، فهو حلٌ واحد لا حل سواه. فما لم يَعرف النظامُ الإيراني حده ويقفْ عنده، وما لم يلتقطْ خشبة الإنقاذ التي مدها له ترمب، وما لم يأتِ إلى طاولة المفاوضات حاسرا وبلا نياشين ولا هراوات ولا مسدسات، فيومُه أسوَد وغدُه أسود، وعلى نفسها جنت براقش. هل تعرفونها؟؟؟