رواية “البحث عن وليد مسعود” لاتزال تقرأ

رواية “البحث عن وليد مسعود” لاتزال  تقرأ
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة أخبار العراق- في 11/12/1994 رحل عن دنيانا الأديب والمترجم والناقد المبدع، جبرا إبراهيم جبرا، بعد أن عاش نحو 74 سنة، وهو من مواليد العام 1920 في مدينة بيت لحم الفلسطينية، وأنتج نحو 70 كتابا بين مؤلف ومترجم، في شتى فنون المعرفة والإبداع، فهو فنان تشكيلي، وله لوحة تم عرضها منذ العام 1946، كما إنه كتب الشعر والقصة منذ يفاعته، وحمل معه أثناء توجهه للدراسة في جامعة كامبردج البريطانية، رواية كتبها باللغة الإنكليزية في العام 1946، هي «صراخ في ليل طويل» ترجمها لاحقا إلى اللغة العربية.قبل ذلك درس جبرا في بيت لحم والقدس، وهناك تعرف على مجموعة من أهم الأدباء الفلسطينيين، وعندما تخرج في جامعة كامبردج، وحصل على الماجستير في النقد الأدبي، توجه إلى الولايات المتحدة، وتابع تخصصه في النقد الأدبي في جامعة هارفارد.بعد احتلال فلسطين وطرد أغلب الفلسطينيين من ديارهم، لجأ جبرا إلى العراق، وأخذ يمارس العمل الأكاديمي ويدرس مادة النقد الأدبي، ثم تعرف على جواد سليم في بداية الخمسينيات، وهو من أبرز فناني العراق التشكيليين آنذاك، وأسسا مع غيرهما من الفنانين «جماعة بغداد للفن الحديث»، وتعرف في تلك الفترة على لميعة برقي العسكري، وتزوجا وأنجبا سدير وياسر. تعرف في بغداد على أبرز المبدعين العراقيين، وساهم وإياهم في توفير المناخات والنتاجات الإبداعية التي أخذت تكرس الحداثة والتنوير والعقلانية والتمدين. ومن بين الأدباء الذين عقد علاقة وثيقة معهم: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ولميعة عباس عمارة وغيرهم، وهم من شعراء الحداثة والتجديد.أصدر جبرا عدة دواوين شعرية، كانت من ضمن تيار الشعر الحديث. وتوالت إصداراته في القصة والرواية والنقد والكتابة، والمساهمة في الفعاليات التشكيلية والسينمائية، كما وأخذت كتاباته النقدية ومساهماته في هذا المجال المعرفي تتوالى تباعا. وقد جُمعت في كتاب صدر بعنوان «أقنعة الحقيقة.. أقنعة الخيال». ومن بين رواياته التي أثارت إشكاليات ونقاشات، كانت رواية «البحث عن وليد مسعود» لأن جبرا هو من عائلة مسعود في مدينة بيت لحم، وهي من العائلات السريانية الأرثوذكسية، وجبرا أجاد السريانية والعربية والإنكليزية أثناء دراسته في بيت لحم والقدس، وقد سعى بعض من كتب عن الرواية للمزج أو إيجاد علاقة تشابه بين وليد مسعود في الرواية وبين جبرا في الحياة، واعتبار ذلك من نوع « سيرة حياة ذاتية».كما أن إشكالية أخرى أثارتها الرواية التي صدرت في العام 1978، وكانت المقاومة الفلسطينية قد دخلت في منعطفات وصراعات مصيرية، نأى جبرا في إبداعاته عن الدخول في أجواء الشعاراتية، وموجة أدب «الواقعية الاشتراكية» التي سادت في تلك المرحلة، وابتعد عن ضجيج المماحكات العقائدية، وشدد على حرية المبدع وتخففه من الحسابات التي تقع خارج الإبداع، وتخلصه أيضا من سلطة الثقافة السائدة وعدم مسايرتها أو السير في ركاب من يسيّرها ويوجهها ويهيمن عليها، كما اجتهد بعض الكتاب.واستمر الهاجس التنويري هو الدافع الأساس لمشروع جبرا في الكتابة الإبداعية وفي الترجمة والنقد وفي محاضراته وندواته، وفي المحافل الأدبيةوالمعرفية التي استطاع الوصول إليها. وعندما سئل ذات يوم: لماذا يغيب المكان في أغلب ما كتبت؟ أجاب إن السؤال عن جدوى المكان، إذا كنت مسكونا بهاجس مكان آخر، أي المكان الأصل الذي تم اقتلاعك منه في وضح النهار.من الأعمال النادرة في سلسلة رواياته الإبداعية، كانت روايته «عالم بلا خرائط» التي كتبها مع صديقه الروائي عبد الرحمن منيف، وهي حالة نادرة في عالم التأليف الإبداعي، كون الإبداع ما هو إلا حالة ذاتية فردية في أغلب الأحيان.قرص في كل عرس إبداعي من أهم إنجازاته في المجال التعريفي التنويري، هي تلك الترجمات لمجموعة من المؤلفات المهمة للحياة الثقافية من الآداب المعرفية والثقافية العالمية، وهي احتلت جانبا مهما في مشروعه المعرفي. فترجم فصولا من كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، التي تركت تأثيرا كبيرا في مجريات الحركة الشعرية العربية، خصوصا لدى السيّاب وأقرانه في مجال التموزيات، ثم توالت ترجماته لإبداعات مهمة في الشعر والرواية والقصة والنقد والمسرح وغير ذلك. من ذلك رواية «الصخب والعنف» للأمريكي وليم فوكنر الذي فاز بجائزة نوبل للآداب عن هذه الرواية، ووضع جبرا مقدمة مهمة لها، شرح ووضّح الكثير من رموزها، وما يمكن أن يخفى من أسرارها وخفاياها. وقد تركت الرواية وأسلوب كتابتها تأثيرها المهم في أجيال من المبدعين العرب، ومن بينهم الأديب الفلسطيني غسان كنفاني في روايته «ما تبقى لكم» الذي اعترف في مناسبات عدة بذلك. كما أن ترجماته ومقدماته لمجموعة من مسرحيات الكاتب الانكليزي وليم شكسبير، كهاملت ومكبث وعطيل والعاصفة والملك لير والسونيتات، تركت أثرها المهم في الحياة الأدبية العربية، ونال على ترجماته تلك وعلى غيرها من إبداعاته جوائز وحفلات تكريم وتقدير من قبل الأوساط الثقافية العربية.وأتذكر أنه جاء إلى الكويت بدعوة من المجلس الوطني للثقافة والفنون في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن تم نشر أعمال شكسبير ضمن سلسلة «من المسرح العالمي» التي كانت تصدر شهريا من قبل وزارة الإعلام، وانتقل إصدارها إلى المجلس الوطني تحت عنوان «إبداعات عالمية». وألقى وأقام جبرامحاضرات وندوات ولقاءات عدة في قاعات المؤسسات الثقافية، ونال ثناء وتكريما لافتين من قبل الجمهور والمسؤولين.كما إنه ترجم مسرحية «بانتظار غودو» لصموئيل بيكيت التي كان لها تأثيرها في الحياة الثقافية، خصوصا المسرحية منها، وجعلت لمسرح العبث واللامعقول حضوره في الحياة الثقافية العربية، وربما كان ذلك من قبل التكرار القول بإنه كان لا يترجم بإبداع فقط، بل كان يرفق الأثر المترجم بمقدمات وإشارات وتعليقات، تُغني النص وتعطيه استساغات مقبولة ومطلوبة.من بين إنجازاته أيضا التعريف بالمذاهب والمدارس الأدبية الحديثة، كترجمة لكتابي «ما قبل الفلسفة» و»الرمز والأسطورة» كما إنه لم ينس في ترجماته الالتفات إلى أدب الأطفال والفتيان، فترجم «الأمير السعيد»لأوسكار وايلد، وقصصا للأديب الفرنسي لافونتين. كما وترجم قصائد مختارة لبعض الشعراء الإنكليز الرومانسيين، كوردزورث وكوليردج. كما كان قد بكتابة دراسة عن مسرحيات غسان كنفاني، إلا أنه توفي قبل أن ينجزها.ومن دواوينه الشعرية، يمكن الإشارة إلى «المدار المغلق» و «تموز في المدينة» و «لوعة الشمس». أما عن إصداراته في المجال القصصي والروائي، فيمكن الإشارة إلى»عرق» أولى مجموعاته القصصية،وروايات «صراخ في ليل طويل» و»صيادون في شارع ضيق» و»السفينة» و»البحث عن وليد مسعود» و»يوميات سراب عفان» و»الغرف الأخرى»، وتميزت الرواية الأخيرة بأجوائها الكافكاوية، و»عالم بلا خرائط» روايته المشتركة مع زميله عبد الرحمن منيف.أما في مجال السيرة الذاتية، فإنه كتب «البئر الأولى» و»شارع الأميرات» وذكر في مقدمته للبئر الأولى «أن مرحلة الطفولة هي أصل الكينونة» وهو في كتابته للسيرة الذاتية، استدعى أجمل وأرق ما تحتويه جعبته وحصيلته اللغوية وركبها باقتدار على ذكريات ووقائع وشخصيات بسيطة وفقيرة، ولكنها مترعة بالدراما والسخرية والحس الإنساني العميق.منح جبرا الجنسية العراقية، لكنه بقي فلسطينيا عربيا، من دون الانغماس في التنظير السياسي أو الانتماء الفصائلي، وبقي واستمر ينادي بحرية المبدع والابتعاد عن الشعاراتية السياسية، ولا يجعلها بديلا أو ركيزة لهيكل الإبداع ومفاصله وكينونته.جبرا إبراهيم جبرا، أديب قيل عن نتاجاته أنها تركت أثرا كبيرا في الأجيال، وترجمت أعماله إلى 12 لغة عالمية، وهو الذي أكد على أن التغيير الحقيقي لا يأتي إلا بعد أن نفهم العالم على حقيقته، وأن يتم ذلك بإرادة حرة. وأن علينا نقل أغنى وأجمل ما في التراث، ووصله بأغنى وأجمل ما في الحداثة. أديب لم يترك مجالا إبداعيا إلا وساهم فيه وأغناه بما ملك من مواهب، وكان له «أقراصا في كل الأعراس» الثقافية والإبداعية، وتحول إلى مؤسسة إبداعية متنقلة قائمة بذاتها، لم أجد في ذكرى رحيله العشرين إلا ما ندر من كتابات عنه وعن أعماله وتوجهاته.

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *