رواية (هتلية) والفضاءات المتشعبة

رواية (هتلية) والفضاءات المتشعبة
آخر تحديث:

بغداد/شبكة أخبار العراق- انطلاقا من رؤية حداثية تخرج رواية (هتلية) للكاتب العراقي شوقي كريم حسن إلى فضاءات متشعبة، بحيث يصعب على القارئ التمسك بخيط يوصله إلى المعنى وماهية هذا النص السردي الذي سنطلق  عليه تجوزا رواية، فالروائي بذاته يقر بأنه ليس رواية، لتوضع هنا علامات استفهام كثيرة تثير ريبة المتلقي الذي يلج في هذا الكم من اللغة الشعرية المملوءة بالانزياحات والمشبعة حد التخمة بانفعالات غرائبية ترسم عوالم مليئة بالصور الضبابية التي أعيت القارئ في استيعابها, فضلا عن أن النص زاخر بالأساطير والكهنة والآلهة والأرباب التي كانت تُقدس في حضارات بابل القديمة ليتخذ من خضوع السواد لهذه الأرباب معادلا لما هو عليه المجتمع في حقبة قريبة جدا في صور رمزية زاخرة بالإيحاء بعيدة كل البعد عن التصريح، وإظهار هذه المقارنة بشكل حقيقي، وإنما اتخذ من المجاز والانزياح وسيلة ليمرر رسالته التي احتوت كل معاني الازدراء والاستهجان والاستنكار إزاء ما يحدث من فوضى وانفلات أمني وأخلاقي. تتمحور أحداث هذه الحكاية الغرائبية حول شخصية عانت الحرمان والتشرد وتفسخ العائلة أخلاقيا، من غير أن يذكر اسم هذه الشخصية غير واضحة المعالم:”تمتلئ ذاكرتي، بحطامات الطفولة التي غادرت باتجاه الحرمان الذي كان والدي يتركه عمدا بين يدينا محاولا لملمة كراهيته، نجلس القرفصاء عند حد الباب نصف الموارب، مراقبين كفيه المغسولتين بعطر الألوان السائحة بالثلج، يومئ إليهم، فينحدرون مثل قطط المزابل، دشاديش مقلمة، وخطوات تكره ريادة الأحلام”، إلا أن الكاتب في سرد لغوي مفعم بالرمزية والإيحاء أجبر القارئ على التكهن بأن هذا الشخص هو منفذ لحكم الإعدام في السجون. يغوص القارئ بين طيات هذه الجحافل اللغوية الزاخرة بالشعرية، فتنقلنا في متاهات وتشعبات لا متناهية بحيث يصعب الإمساك بلحظة معينة كأنما سراب أو كتلة هلامية سرعان ما تتسرب من قبضتنا، ومن ذلك ما ينقله الراوي في سرده لحظة تخيله محبوبته أمامه وهو يخاطبها:”تعالي نتقاسم الفراغ| ونعيد توزيع الأدوار| أنت تمارسين دور المحارب| أنا أقيم مأتم الانتظار| أخطط لاستباحة السكون|… لكننا نرفض الاقتراب| نرفض الانقراض| الحر……و…..ف|”. ومما تجدر الإشارة إليه أن الراوي في لغته خلط كثيرا بين الفصحى والعامية، فالرواية بدأت بشكل غير مألوف نوعا ما بضحكات هستيرية ونبرة تهكمية ساخرة بين شخصيتين في لحظات سكر مجنون. ومما يلاحظ أنها لغة شعبية عراقية في وضع غير طبيعي أثناء تبادلهما الحديث المغلف بالرمز والازدراء لوضع تقشعر له الأبدان مما جعلهما يبالغان في سكرهما ليتناسيا ما هما عليه. حتى طريقة السرد التي كانت بالفصيحة تخللتها اللفظات العامية ويلاحظ هذه الظاهرة بكثرة على امتداد النص:”تنسحل أرواحنا مثل بزازين جائعة، محاولة الوصول إلى تنانير الأمهات، تتحرك خشومنا الماطخة لعابها وتئن المعد الراغبة برائحة الطحين”. فضلا عن كثرة المفارقات بين عوالم مختلفة تارة في الحياة الدنيوية، وأخرى حياة تذهب إليها الأرواح بعد موتها، فبينما يصف الصور التي تتراءى له وهي مبهمة بالنسبة له فينقلها كما في وعيه وذهنه وزاوية نظره نجده يقول:”وحدي حين تغتسل الدرابين بنيران الانتظارات، أرسم لوحتي التي لا أعرف لها معنى، الشباك المفضي إلى الداخل المعتم.. الأنين الذي لا يمكن أن نعرف مصدره”. نجده في ذات اللحظة راح يؤطر ويصف حال أهل الفقيد ومنهم أحدى النسوة وهي تلطم خدها في عالم دنيوي معاش. يعيد الأذهان في موضع آخر إلى الأساطير والآلهة والأرباب البابلية القديمة جدا متخذا منها معادلا لسياسات تجعل من الناس عبيدا، وحضارات ذهبت دونما رجعة. تنتهي الرواية نهاية مأساوية، فالشخصية الرئيسة لم تعد تتحمل وتطيق ما تفعله من زهق للأرواح وأفعال شنيعة خادشة لكل معاني الإنسانية، وما يتجلى أمامها من موت وتوابيت ورائحة موت وفوضى وسياسات لا خلاقة هامت بين القبور والمزابل لتجد كلبا وتحاوره بأن يتبادلا الأدوار، لكن الكلب رفض أول الأمر ثم سرعان ما قرر أن يجرب هذه المبادلة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *