سقوط بغداد وقيامها

سقوط بغداد وقيامها
آخر تحديث:

بقلم:علي الصراف

سقطت بغداد بأيدي غزاة كثر. ولكنها نهضت لتغسل عار ما تركوا. شيء ما في طبيعة هذه المدينة يقول إن سقوطها يعني انهيارا لبنيان عظيم لا يقتصر عليها وحدها، ولا يتوقف عند أهلها. ولكنها تعود لتنهض، في تكرار لم تتوقف تراجيدياته، وكأنها قدر أبدي من الدوران بين حضارة وانحطاط.هذه المدينة، إذا كانت رمزا إمبراطوريا، لا مجرد “عاصمة” لكيان إمبراطوري ما، فإنها لا تسقط، إلا وتسقط معها منظومات رمزية ومعنوية ومادية وإستراتيجية عظمى.

عندما تسقط بغداد تسقط الثقافة، على سبيل المثال. ليس لأنها ظلت عاصمة تلتفت إليها الثقافات، بل لأنها تجرّأت على الجمع والاحتواء، جرأتها على التجديد والابتداع. شيء ما في روح هذه المدينة يقول إنها تتنفس أدبا، أكثر مما تفعل أيّ مدينة أخرى في العالم. فإذا سقطت، يختنق الشعر وتختنق الأساطير كما تختنق مجالس الأدب وحواراته.

عندما سقطت بغداد على يد هولاكو في العام 1258، وكان الأول لها بعد أن كونت عالما من الرموز والمعاني، سقطت معها إستراتيجيات بناء أمة، تلتئم على معطى حضاري وثقافي وديني وسياسي.

لم يكن بوسع الفساد إلا أن يكون فسادا، حتى لو أعطيته محمد شياع سوداني ليحاول الظهور بمظهر آخر. الميليشيات التي تحكمه وتتحكم به هي ذاتها الميليشيات، وإن حاولت أن تبدو أقل قبحا وعندما سقطت مرة أخرى على يد إسماعيل شاه الصفوي في العام 1508، سقطت معها الدولة، وحلت محلها الطوائف والفرق التي شكلت تاريخا آخر للمنطقة، يقوم على أساس صراعاتها وانقلاباتها وحروبها الداخلية.

وعندما سقطت على أيدي العثمانيين في العام 1638، سقط العلم، وحلت الأمية فاجتمع الجهل مع الاستبداد.وعندما سقطت على أيدي الإنجليز في العام 1917، سقطت منظومة مفاهيم وأنظمة عيش بالية، ولكن لتحل محلها وطنية محاطة بأسوار كيان جديد ومفاهيم تجريبية، وصراعات سياسية بين عراق غير متفق عليه، واستعمار حاربه الجميع. لم يعرف العراقيون من بعده ماذا يريدون من العراق، فلم يؤسسوا دولة، وبقوا بدستور مؤقت لردح طويل، وعندما وضعوه، خانته أنظمتهم التجريبية اللاحقة بعد الاستقلال. وتراوحت البلاد بين انقلاب وآخر، على مفاهيم لم تلاحظ أنها لا تقيم دولة، بل أنظمة، على أسس اجتماعية واقتصادية ودستورية هشة.

وعندما سقطت على أيدي الأميركيين في العام 2003، سقطت الأخلاق، وحلت الدعارة السياسية والميليشيات محل الأيديولوجيات والأحزاب. وتفشى الفساد، وأصبحت الدولة مؤسسة محاصصة للنهب المنظم. وانهارت الوطنية التجريبية السابقة لتحل محلها العمالة والتبعية والانحطاط الشامل والتام في كل معيار من معايير المؤسسة والنظام.الدورات بين 1258 و2003، لم تخل من محاولات للنهضة. أحدثها المحاولة التي نهض بها “الدكتاتور” صدام حسين.لا يُقارن هذا الرجل بأي دكتاتور آخر. لا يعلو أيّ أحد منهم إلى ركبته ارتفاعا. لأنه كان صاحب “مشروع”. وظّف سلطته ودكتاتوريته لصالح هذا المشروع. وليس العكس. كرسيّه لم يكن هو السؤال. كانت نهضة العراق هي السؤال.

تستطيع الآن أن تجادل في طبيعة هذا المشروع، وأنه لم يكن مشروعا حضاريا مكتملا، وأنه انطوى على مفاهيم خاطئة للقوة، واستعان بأدوات حزبية أقل جدارة من أن تشكل حصنا له، وخدعته بالولاء، قبل أن تخونه من عقر داره. إلا أنه كان محاولة لبناء دولة أولا، ومستقلة ثانيا، ومنيعة القوة ثالثا، وتنموية جامعة رابعا، ولو كان لديها أوهام عمّا يجب أن يكون عليه الحال في المنطقة بأسرها.بعد رحيله، أنتجت هذه الأمة جيلا جديدا من الحكام، في بلدين أو ثلاثة أو أربعة، على أبعد تقدير. جيل قادة، يقود مشروعا. من دون أوهام. يستعين بأهل الخبرة لا بأهل “الولاء”، كما فعل صدام. تعينه التقاليد والأعراف الاجتماعية، فلا يعود في حاجة إلى أن يكون “دكتاتورا” من الأساس.

بغداد سقطت. ولكنها بقيت مثل الجمر تنبض تحت الرماد. انتفاضة تشرين بين العامين 2019 و2020، قد تبدو وكأنها تراجعت. إلا أن ما ظل يغلي، ظل يغلي إلى الآن.لم يكن بوسع الفساد إلا أن يكون فسادا، حتى لو أعطيته محمد شياع سوداني ليحاول الظهور بمظهر آخر. الميليشيات التي تحكمه وتتحكم به هي ذاتها الميليشيات، وإن حاولت أن تبدو أقل قبحا. ضعها على المحك، وستعود إلى ما تعرفه.عندما يعرف العراقيون كيف يُقيمون نظاما غير تجريبي، وعندما يتفقون على معنى العراق، وعندما يتعلمون ما فاتهم من دروس في الحكم والإدارة، فإنهم سوف يحصلون عليه

اللصوص والأفّاقون الذين حولتهم سلطة الاحتلال إلى “زعماء” وقادة حكومات ووزارات، لم يكن بوسعهم أن يتجاوزوا انحطاطهم الأخلاقي، حتى ولو أعطيتهم مال قارون. الطبع يظل هو الغالب. ولقد نهبوا مال قارون بالفعل. التقديرات تصل إلى 600 مليار دولار، “ضاع” 400 منها في عهد “أبو نظام المحاصصة الطائفية” نوري المالكي وحده.

ولكن الأيام تمضي. اللصوص يموتون في النهاية، كما يموت غيرهم. ومال قارون لا يعود ينفع. المال لا يكفي لوقف ما ينقضي في الحياة.ولكن الدروس والمعاني والخبرات تعود لتنهض مثلما تشق البذور المدفونة طريقا إلى النور.دورة بعد أخرى، ظلت بغداد تنهض. تتعلم ببطء شديد. وكثيرا ما تختار طرقا غير مألوفة، وتعود لتمارس التجريب، إلا أنها تنهض. أحفاد هولاكو عادوا من بغداد مسلمين. اكتشفوا بعد كل جرائمهم فيها أن هناك شيئا آخر يستحق أن يُلتفت إليه.

الفرس اندحروا، ولو لم يندحر حقدهم، فعادوا في 14 يناير 1624 ليرتكبوا مذبحة في بغداد، قبل أن يعودوا على ظهور دبابات “الشيطان الأكبر”، فجددوا المذابح على أيدي غلمانهم القدامى أنفسهم. ولسوف يندحرون. كُتبت لهم الهزيمة الأبدية في القرآن الكريم، “من قبل ومن بعد”. ولن يحصلوا على غيرها. أصبحت هي القاعدة. يقول تعالى: “ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)”. هذا قدر إلهي. رب العالمين يفرح بهزيمتهم ويفرح المؤمنون بنصره عليهم. شيء من هذا حصل بين العامين 1980 و1988، كما حصل في العام 636، فيما صار يُعرف بمعركة القادسية. وسيظل يحصل “من قبل ومن بعد”. إذا كنت تؤمن بالله. فحقدهم الأبدي، وهزيمتهم الأبدية، قدر من أقدار الله، ولو زعموا أنهم مسلمون. إسلامهم جزء من الحقد على الإسلام. جزء من الخديعة. لأنه “إسلام” شقاق ونفاق.

الغزاة الآخرون، لم يكسبوا إلا الهزيمة. خسروا أكثر من تريليوني دولار، ونحو خمسين ألف جندي. ثم رحلوا ولم يرحلوا. ظلوا يطلبون التعويض. ولكنهم طلبوه من وسائل النهب. نصّبوا رعاعا في السلطة لكي يسهل عليهم الأمر. ولكنهم لن يجدوا سبيلا لتعويض تام. وهناك ما يبرر الدعوات إلى أن يروا أن ما فعلوه كان جريمة بحق شعب ظلموه واستباحوا دمه ودمّروا كل مقومات حياته. وهي جريمة جديرة بتقديم الاعتذار.عندما يعرف العراقيون كيف يُقيمون نظاما غير تجريبي، وعندما يتفقون على معنى العراق، وعندما يتعلمون ما فاتهم من دروس في الحكم والإدارة، فإنهم سوف يحصلون عليه. ولكنْ، قبل أن يحصلوا على الاعتذار، جدير بهم أن يستعيدوا المعطى الحضاري الذي أسقطه الغزاة تلو الغزاة. جدير بهم أن يستدركوه بالعلم والثقافة والقانون والأخلاق.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *