هاشم العقابي
كنت قبل يومين في زيارة خاطفة لعمّان التي أكن لها حبا خاصا يتخطى عمره الثلاثين عاما بدأ عند زيارتي الأولى لها في العام 1979. لم أسأل نفسي مرة عن سر هذا الحب الا في زيارتي الأخيرة لها. قالت لي النفس انه الاستقرار يا رجل. عدت وسألتها: لكن الاستقرار نتيجة وليس سببا، أليس كذلك يا ابنة الحلال؟ نعم. فما الذي جعل عمّان تنعم بالاستقرار بينما جارتاها بغداد ودمشق لا تعرفان له طعما؟ شيئان لا تجدهما في عمّان: الرشوة وهذيان الحكّام. بينما عند جارتيها فعلى قفا من يشيل.
كانت بغداد تعج بالخير الا ان حل الحصار اللعين وصارت الرشوة هي القاعدة والنزاهة استثناء الى يومنا هذا. ومن حينها ما عادت بغداد هي بغداد ولا الناس هم الناس. ودولة تتفشى بها الرشوة بوضح النهار ستتفلش حتى لو كان أساسها من حديد. أما اذا اقترن انتشار طاعون الرشوة في دولة بوجود حاكم مسخرة فتلك مصيرها علمه عند الله وعند أهل العراق وسوريا واليمن وليبيا.
بينما كانت الرشوة تأكل الضمائر، والحصار يجوب الطرقات، والحرب على الأبواب، كان حاكم العراق، آنذاك، يهذي ليعلم النساء أفضل طريقة لصناعة المعجون مرورا بعدد مرات “الاستحمام” بالنسبة للمرأة والرجل ثم يهدد الناس بـ “يا ويلو الما عندو قصة”. صارت أحاديثه مسخرة ونكتة يومية يتداولها العراقيون في المدارس والمطاعم والبارات والطرقات. سمعته واحدة من جداتنا فأقسمت بالعباس ان هذيانه صحوة موت. وصدقت الجدة إذ انه فعلا مات لكن بعد ان موّت أجمل ما في بلدنا. رحل وظلت الرشوة. بل زادت من بعده قاطات وقاطات. حواسم وشفاطون وفضائيون من كل حدب وصوب. وان كان السابق وحده يهذي فقد كثر من بعد الهذّاءون والهرّاءون، وكثر معهم الضاحكون عليهم من الناس. لكن ضحكهم كالبكا. صار العراقي الحزين في خلوته لا يكهكه، فقط، بل ويطكطك في “ما ننطيها” و “الشفافية” و”القمقم” و “وسيم العاصمة”.
وحتى لا نبخس الناس أشياءهم فان ظاهرة الهذيان قد تلاشت عند الرئاسات الثلاث الجديدة اذا يندر ان تجد عند احدهم ما يدفعك الى الضحك. انها بشارة خير يا حضرات. لكنها تظل محفوفة بالخطر والحذر معا لأن الحديث عن تفشي الرشوة لم تنقطع اخباره بعد. ابحثوا بجد عن أسباب زحف الدواعش علينا وتحرك المفخخات بيننا بحرية شبه مطلقة، وخراب الضمائر والمدارس والزراعة والكهرباء والامن، وستجدون ان الرشوة تقف في اول قائمة مصادر تغذيتها. بلد ان أحبه الله رزقه بحاكم رزن ومنّ عليه بالشفاء من داء الرشوة. نسألك الحب يا رب.