عدنان حسين
لا يفوّت السياسيون الممسكون بتلابيب العملية السياسية، المتحكمون بعمل الدولة، أية مناسبة لإعلان براءتهم من خطايا العملية السياسية وفشل الدولة، وعيد الفطر الأخير كان إحدى هذه المناسبات، فقد سمعنا كلاماً يعادل وزنه ذهباً، لكنه من حيث القيمة العملية لا يساوي شيئاً.
رئيس المجلس الأعلى الإسلامي، عمّار الحكيم، من أبرز من استخدم المدفعية الثقيلة في نقد بعض مظاهر الفشل السياسي- الحكومي، ففي خطبة العيد يوم السبت الماضي دعا إلى “إعادة بناء هياكل الدولة والتخلص من البيروقراطية ومكافحة الفساد الإداري والمالي والعمل على إنهاء ظاهرة التعيينات بالوكالة لأنها أساس الفشل الحكومي والإقصاء السياسي”.
ما من زعيم حزب أو كتلة أو ائتلاف سياسي متنفّذ في العملية السياسية والدولة إلا ويقول كلاماً شبيهاً بهذا الكلام كما لو انه نسخة عنه.. والسؤال: مَنْ المسؤول إذاَ عن تعويق إعادة بناء هياكل الدولة منذ 2003 حتى اليوم؟ ومَنْ المسؤول عن عدم مكافحة الفساد الإداري والمالي، ومَنْ المسؤول عن إبقاء ظاهرة التعيينات بالوكالة؟
المجلس الأعلى، كما حزب الدعوة الإسلامية والتيار الصدري وحزب الفضيلة والحزب الإسلامي وحركة الوفاق والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير والحركة الإسلامية الكردستانية، وتوابع هذه الأحزاب والحركات المُمثلة في مجلس النواب والحكومة الاتحادية، هي بالطبع المسؤولة لأنها مجتمعةً صاحبة القرار الأول والأخير في عمل الدولة، خيراً أو شراً.. ليس في وسع أي من هذه الأحزاب والحركات والائتلافات التي تشكّلها التنصل من هذه المسؤولية والنأي بنفسه عنها وإلقاؤها على عاتق الآخرين بكلام عام من النوع الذي تحدث به الحكيم في خطبة العيد.
لنأخذ مثلاً قضية التعيينات بالوكالة. والمقصود هنا التعيينات في المناصب العليا (وكلاء وزارات وقادة عسكريون وأمنيون ورؤساء هيئات “مستقلة وما شابه ذلك”). الحكومة السابقة سنّت سنّةً غير حميدة بإسناد هذه المناصب الى أشخاص بالوكالة وليس بالأصالة، تجنباً لتقديم المرشحين لهذه المناصب الى مجلس النواب كما ينصّ عليه الدستور.. بدعوى عدم التوافق بين الكتل والقوى على المرشحين لهذه المناصب التي تخضع لقاعدة المحاصصة الطائفية والقومية والحزبية، أعطى رئيس الوزراء السابق لنفسه سلطة تعيين أشخاص مقربين منه أو يريدهم هو في هذه المناصب. الدستور يسمح له بفعل ذلك لمدة ستة أشهر فقط، لكنه تمسّك بمَنْ عيّنهم في هذه المناصب على مدى سنوات، ومعظمهم لم يزل في منصبه بعد مرور سنة على بدء أعمال البرلمان الجديد والحكومة الجديدة.. هؤلاء مكثوا في مناصبهم لأن الكتل والائتلافات والقوى المتنفّذة في البرلمان والحكومة، وبينها المجلس الأعلى الإسلامي والتحالف الوطني (الشيعي) لم تفعل ما كان يتعيّن القيام به، وهو إرغام رئيس الوزراء السابق ورئيس الوزراء الحالي على انهاء تنسيب وكلاء الوزارات والقادة والرؤساء وسواهم من المعّينين بالوكالة وتعيين أصلاء بدلاً منهم.. وهم لم يستطيعوا هذا لأنهم مختلفون على حصة كل منهم من هذه المناصب.
المشكلة على هذا الصعيد ليست كون ظاهرة التعيينات بالوكالة “أساس الفشل الحكومي والإقصاء السياسي”، كما قال زعيم المجلس الأعلى، إنما هي في نظام المحاصصة الذي ابتدعته الطبقة السياسية المتنفّذة ووضعته قيد العمل والتداول بدلاً عن الدستور. نظام التعيينات بالوكالة سمح بتقليد أشخاص غير أكفاء وغير مهنيين وغير نزيهين وغير وطنيين مناصب رفيعة أول وأهم ما يتوجب أن يتحلى به شاغلوها الكفاءة والمهنية والنزاهة والوطنية.. هذا صحيح، لكن صحيح أيضاً أن الكثير من المناصب المشغولة بالأصالة تولّاها ويتولّاها الآن وكلاء وزارات وقادة عسكريون وأمنيون ورؤساء هيئات ومدراء عامون وسفراء وقناصل وملحقون، لا يختلفون في شيء عن شاغلي المناصب بالوكالة.. نظام المحاصصة هو السبب في منح الكثير من هذه المناصب الى فاسدين ومتزلفين، كثير منهم من فلول نظام صدام ومزوّري شهادات وجدوا طرقاً سالكة إلى القوى والأحزاب والكتل والائتلافات السياسية المتنافسة والمتصارعة على السلطة والنفوذ والمال، وبخاصة الأحزاب والقوى الإسلامية، والمجلس الأعلى واحد منها.
التعيينات بالوكالة ليست هي الأساس في فشل دولتنا ونظامنا السياسي.. نظام الاحتكار والمحاصصة هو أساس هذا الفشل.. القوى والأحزاب والائتلافات المُمثلة في الحكومة والبرلمان جميعاً لا تمثل سوى أقل من 50 بالمئة من الشعب العراقي (كل الانتخابات البرلمانية التي جرت لم تصل نسبة المشاركة في أي منها إلى 50 بالمئة، أي أن أكثر من نصف الناخبين العراقيين كانوا يعزفون عن المشاركة فيها)، ومع هذا فان هذه القوى والأحزاب والائتلافات تصرّ على احتكار ليس فقط المناصب العليا في الدولة بل حتى وظائف الكَتَبة والفرّاشين، وهذا ما جعل قليلي الكفاءة والخبرة والمهنية والوطنية وعديميها، من المتزلّفين والفاسدين في الغالب، يتحكّمون بالدولة فيما أهل الكفاءة والخبرة والمهنية والوطنية يُعاملون بوصفهم دخلاء ولاجئين ونازحين فائضين عن الحاجة.
هذا هو أساس فشل دولتنا ونظامنا السياسي، السيد الحكيم… أي كلام غير هذا ينطبق عليه المثل الشعبي “يخوط بصف الاستكان”.