كان أبو عليّ الجُبّائيُّ في السادسةِ والعشرينَ من العمر حين ولد ابنه أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهّاب الجُبّائيُّ. وفي الواقع فإن “تاريخ بغداد”، وهو المصدر الذي أعطانا تاريخ ولادته، ارتكب هنا خطأ جسيماً، إذ نقل عن أبي هاشم أنه ولد سنة 247، وعنه نقلت هذا التاريخ مصادرُ أخرى كثيرة.وقد لاحظ محقِّق الكتاب أنَّ هذا التاريخ خطأٌ تصحِّحُهُ رواية وفاته أنَّه مات وعمره ستٌّ وأربعونَ سنةً وثمانية أشهر وواحد وعشرونَ يوماً. ولذلك فلا شكَّ أنَّه وُلِدَ سنة 277. وقد نشأ وترعرع في أحضان أبيه في بيئة الأهواز وخوزستان. وتروي المصادر المعتزليَّة أخباراً مبالغاً فيها حول رغبته في التَّعلُّم على أبيه، وإلحاحه عليه بالأسئلة منذ طفولته المبكِّرة.
مع ذلك يبدو أنَّ الخلافات بين الابن وأبيه كانت قد استعرَتْ ووصلَتْ إلى درجةٍ بالغةٍ حتّى ذاعت أخبارُها بين الناس، وصار كلٌّ منهما يُكفِّرُ الآخر. وقد حاول المعتزلة اللاحقون التَّخفيف من حدَّةِ هذه الخلافات بالزَّعم أنَّها خلافات سطحيَّة، كما يحدث بين التابع والمتبوع، ونظم أبو الحسن بن فرزويه في هذه الخلافات شعراً تورده المصادر.
وفي سنة 303، حين كان أبو هاشم الجُبّائيُّ في السادسة والعشرينَ من العمر توفِّيَ أبوه أبو عليّ الجُبّائيُّ. وكان قد أوصاه بأن يدفنَهُ في العسكرِ، إذا مات وأن لا يُخرجَهُ منها. لكنَّ أبا هاشم أبى “إلّا أن يحملَهُ إلى جُبَّى”. فَدُفِنَ في بستانٍ إلى جوارِ أُمِّهِ وزوجتِهِ. وهكذا انتقلَتْ صدارةُ مدرسة الاعتزال البصريِّ إلى أبي هاشم وهو دون الثَّلاثينَ من العمرِ.
وفي ما يتعلَّقُ بدراساتِهِ اللُّغويَّة، ينقل ابن المرتضى روايةً فريدةً غيرَ معقولةٍ من الناحية التاريخيَّة، إذ يزعم أنَّه حين قدمَ إلى بغدادَ “كانَ يأخذُ علمَ النَّحوِ عن المبرِّدِ، وكانَ في المبرِّدِ سخفٌ، فقيلَ لأبي هاشم: كيفَ تحتمِلُ سخفَهُ؟ فقالَ: رأيتُ احتمالَهُ أَولى من الجهلِ بالعربيَّةِ”. ولكنْ إذا كان أبو هاشم قد جاء إلى بغداد سنة 316، فمن المحال أن يكون قد التقى بالمبرِّدِ في هذه الفترة، لأنَّ المبرِّدَ توفِّيَ في أغلب الرِّوايات سنة 285، أي قبل قدومِهِ بما لا يقلُّ عن عشرينَ سنةً.
وحين نعود إلى مرجعٍ معتزليٍّ آخرَ عن هذه الرِّواية، وهو القاضي عبد الجبّار في “فضل الاعتزال”، فإنَّنا نجد روايةً مختلفةً وممكنةً إلى حدٍّ كبيرٍ. فأبو هاشم لم يلتقِ المبرِّد، بلِ التقى تلميذِهِ محمَّد بن عليّ بن إسماعيل المعروف بالمَبْرَمانِ، وكان يُدرِّس في الأهواز وخوزستان، لا في بغدادَ. يقول القاضي عبد الجبّار إنَّه عوتِبَ على احتمال سخفِهِ فقال: “أيُّما أَولى أن أحتمِلَ وأستفيدَ العلمَ، أو لا أحتملَ وَأَبقى على الجهلِ؟”. وفي الواقع فقد كان المبرمان معروفاً بالوضاعة. ينقل القفطيُّ في وصف شخصيَّتِهِ أنَّه كان “ساقطَ الهمَّةِ، فاقدَ الهيبةِ، دنيءَ النَّفسِ، كثيرَ الطَّلَبِ والتَّثقيلِ على المستفيدينَ. وكانَ قد أَقامَ بالأهوازِ مدَّةً يُفيدُ الناسَ على هذه الصُّورةِ. ومن مَهانتِهِ أنَّه كانَ إذا أرادَ أن يمشيَ إلى منزلِهِ استأجَرَ حمّالاً بطبليَّةٍ [سلَّة] وقعدَ فيها، وحملَهُ الحمّالُ من غيرِ عجزٍ عن السَّعيِ، وربَّما بالَ على رأسِ الحمّالِ.
فإذا عاتبَهُ يقولُ: احسَبْ أنَّكَ حملْتَ رأسَ غنمٍ وبالَ عليكَ. وكانَ ربَّما استصحَبَ معَهُ تمراً ممّا يُعطاهُ، فيأكلُهُ وهوَ على رأسِ الحمّالِ، ويحذفُ به الناسَ الذينَ يجتازُ بهم في طريقِهم، إلى أمثالِ هذا من الأفعالِ السَّخيفةِ”. هذه هي أخلاق المعلِّمِ اللُّغويِّ لأبي هاشم الجُبّائيِّ، وليس المبرِّد.
غير أنَّ تلقِّيَه النَّحوَ واللُّغةَ عن هذا المعلِّم الوضيع، المبرمان، لم يمنَعْ أبا هاشم من ادِّعاء التَّخصُّص بالنَّحو في بغداد. والظاهر أنَّ ذلك لم يكنْ احتفاءً بالنَّحو، بل هو نوعٌ من التَّنكُّر حتّى لا يُتَّهَمَ بأنَّه متكلِّم أو معتزليٌّ، وقد مُنِعَ الكلامُ بأمر سلطة الخلافة منذ سنة 279، أي قبل أكثرَ من ربع قرنٍ. يقول القاضي عبد الجبّار: “وكانَ من جملةِ ما يُحكى أنَّه كانَ يُوصَفُ وهو ببغدادَ بأنَّه “أبو هاشم النَّحويُّ”. فقد كانَتْ تلكَ الأيّامُ صعبةً، يُخافُ فيها على أصحابِنا”. ولهذا الخبر مضمونٌ مختلفٌ تماماً، فقد كان خروج أبي هاشم الجُبّائيِّ من الأهواز إلى بغداد هَرَباً من تلك البيئة، التي يبدو أنَّها صارت تضيقُ بالاعتزال وبنزعة التَّكفير المتشدِّدة التي تبنّاها معتزلة البصرة حينئذٍ. وقد اضطرَّ في بغداد إلى التَّنكُّر والادِّعاء أنَّه “نحويٌّ”، وليس متكلِّماً بصريّاً، لا يتردَّدُ في تكفير كلِّ مَن يختلف معه.
لكنَّ المصادر المعتزليَّة بالَغَتْ في دراسته على المبرِّد وادِّعائه النَّحوَ، حتّى صارت تلمِّحُ إلى ملكاتِهِ اللُّغويَّة المتميِّزة، وأنَّه “كانَ إماماً في العربيَّة”. والحقيقة أنَّنا صرنا نمتلك دليلاً نصِّيّاً على ضعف لغة أبي عليّ وأبي هاشم الجُبّائيَّين، كتبه المتكلِّمُ الأشعريُّ الباقلانيُّ المتوفَّى سنة 403 في كتابه “هداية المسترشدين” الذي عُثِرَ على فقراتٍ متفرِّقةٍ قليلةٍ منه، ونقله عنه أبو الحسين البصريُّ في الشَّذرات التي عُثِرَ عليها من كتابه “تصفُّح الأدلَّة”. فقد ردَّ الباقلانيُّ على ادِّعاء الجُبّائيَّين عدم معرفة العرب بالأفكار الكلاميَّة مُدافعاً عن العرب بأنَّهم “أجوَدُ أذهاناً، وأثبَتُ أَفهاماً، وأحزَمُ آراءً، وأشدُّ استدراكاً، وأدقُّ نَظَراً من كلِّ مُدقِّقٍ من الخوزِ وأهلِ جُبَّى والعسكرِ. وقد وصفَهم اللهُ بذلكَ، ودلَّتْ عليهِ أمثالُهم وأشعارُهم ونظمُهم ونثرُهم وجودةُ قرائحِهم، وصِحَّةُ نحائزِهم [النَّحيزة: الطَّبيعة] ووفورُ عقولِهم وأحلامِهم. وأنتُم بالجهلِ بما تظنُّونَ جهلَهم به أَولى وَأَحقُّ. فلا وَجْهَ لتفضيلِ أنفسِكم بتصغيرِ شأنِهم والقدحِ في عقولِهم”. ومن الواضح من هذا النَّصِّ أنَّ الباقلانيَّ يُشير إلى أنَّ العرب ليسوا فقط أصحَّ بَياناً وأنصَعَ لغةً من أهلِ جُبَّى وخوزستان، أي من عائلة الجُبّائيين من أدعياء المعرفة، بل هم أدقُّ منهم تفكيراً، وأبعَدُ نظراً في الإشكاليّات العمليَّة.
ولا يبدو أنَّ الحياةَ راقَتْ لأبي هاشم في بغداد، ولا يَرِدُ له أيُّ حضورٍ معلنٍ بوصفه مُتَكلِّماً، ربَّما تحت ضغط الأزمة الاجتماعيَّة التي حظَرَتِ العلومَ العقليَّة. وبعد سبعِ سنوات من الحياة في بغداد، توفِّيَ أبو هاشم ليلة السَّبت الثالث والعشرين من رجب سنة 321.
ترك أبو هاشم الجُبّائيُّ عدداً من الكتب أورد ابن النَّديم بعض عناوينها. لكنْ يبدو أنَّ جميع هذِهِ العناوين قد ضاعَتْ ولم يصلْنا من أعماله شيءٌ. وفي الأغلب فإنَّ اختفاء هذه الأعمال لم يكنْ مُفاجأةً، لأنَّ أعمال المدرسة البصريَّة في صورتها لدى الجُبّائيَّينِ لم تكنْ موضعَ ترحيبٍ في بغداد منذ ظهورها في أواخر القرن الثالث. وإذا أضفنا لها قرارَ منعِ تداولِ كتب الفلسفة وعلم الكلام في ذلك العصر، وانطواء الجزء الأكبر من أعمال هذه المدرسة على نزعة تكفير مُتَزمِّتة، وازدهار الأشعريَّة، فإنَّ كلَّ هذه العوامل تجعلُ من الرِّضى عنها ينزل إلى درجة الصِّفر. وهكذا اضطرَّتْ هذه الأعمال إلى الارتحال حيث توجد المدرسة البصريَّة في الاعتزال. وبقيَتْ أصداؤُها تتردَّدُ في أعمال حلقة القاضي عبد الجبّار.
يمكن القول إنَّ الإسراف في التَّكفير هو الذي حمل الاعتزال البصريَّ إلى نهايته المحتومة. فكان على المدرسة البصريَّة إمّا أن تواجه مصيرَها المؤسفَ، أو أن تُعيدَ النَّظر في التَّقليل من هذا التَّوتُّر غير الضَّروريِّ. وعلى ما يبدو فقد كان على مدرسة القاضي عبد الجبّار أن تعيد النَّظر في منطق التَّكفير لدى البصريِّين، وأن تُبديَ نوعاً من المرونة المتسامحة بتطعيم الاعتزال البصريِّ بكثيرٍ من عوامل التَّقبُّل في الاعتزال البغداديِّ.