ابراهيم الزبيدي
في أيام الراحل صدام حسين كان النظام كله مكدسا في غرفة نومه، وفي أيدي قلة قليلة جدا ملتصقة به، تنطق باسمه، وتأمر وتنهى نقلا عنه. وليست المخابرات، على قسوتها وجبروتها وهيمنتها على الحزب والدولة، ولا القيادة القومية للحزب، ولا القيادة القطرية، ولا الحرس الجمهوري، ولا الجيش، ولا الوزراء من ضمنها.
فكل من هو خارج البقعة الضيقة، مدنيا كان أو عسكريا، كبيرا أو صغيرا، لم تكن حصته من النظام غير الخدمة المضنية طمعا في ثواب، أو الرعب المتجذر خوفا من العقاب، مقابل إكراميات ومناصب ومظاهر فارغة. حتى أن نائب رئيس جمهورية رد على أقاربه الذين جاؤوه مستجيرين به من ظلم قائلا، “إن هذا الطلب بحاجة إلى (واسطة) كبيرة”
ولا يستطيع واحد من الموظفين، أن يطلب مقابلة الزعيم لكي يتأكد من أن ما بلغه من أوامر وتعليمات على لسانه، أو نيابة عنه، صحيح وصادر منه شخصيا. ومرد ذلك إلى الخوف من غضبه أو من غضب الحاشية.
وفي نظام من هذا النوع كان وزير الخارجية، مثلا، لا يعرف، ولا يطلب أن يعرف، ما يدور خلف الأبواب المغلقة، حتى لو كان ذلك من صميم عمله واختصاصه وواجباته. فهو جندي برتبة وزير. وحدث كثيرا أن اتخذ صدام قرارا، أو أحد أفراد النخبة، فقلب عمل وزير الخارجية رأسا على عقب، وهدم ما تعب في بنائه شهورا، فلم يملك الوزير حتى حق الشكوى ناهيك عن الاعتراض، وما عليه سوى أن يحفى ويشقى ويستخدم كل فنونه وعلاقاته وماء وجهه في التبرير والتلميع والترقيع، ولا شيء غير ذلك.
والشيء نفسُه كان مع وزير الدفاع وغيره من وزراء وسفراء ومدراء. فضربُ حلبجة بالسلاح الكيمياوي لم يُستشر به وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش ووزير الخارجية والمحافظ. وسمع رئيس أركان القوات المسلحة بغزو الكويت من الراديو والتلفزيون. وإيران اليوم لا تختلف بشيء عن نظام صدام حسين في أواخر أيامه.
والحال هذه هي حالُ جميع الأنظمة غير المؤسساتية التي ينفرد فيها بالقرار شخص واحد فقط، مع قلة قليلة جدا من العائلة والبطانة.
ولا يجري هذا في الدول فقط، بل في الأحزاب والمليشيات والمنظمات التي ينشؤها زعيم واحد، ويملك ناسها وأموالها، دون شريك، ويجعل مصيرها معلقا بمصيره.
لقد بصم جواد ظريف وزير خارجية إيران على اتفاق مع الدول الكبرى الست يبدو، في أحسن حالاته، صفعة لا صفقة، بل نكسة مذلة تاريخية لنظام الولي الفقيه.
يقول خطيب جمعة طهران، محمد امامي كاشاني: “إن الغرب قد اعترف رسميا بـ إيران النووية، وإن كانت طبيعة بيان لوزان، تتسم بـاطار عام”. وهنا نسأله، ألم يقرأ تفاصيل ذلك الاتفاق الذي اعترف بإيران نووية؟ وهذه هي أسس الاتفاق:
* وضع قيود حازمة على إيران في مسألة تخصيب اليورانيوم” منها الاكتفاء بمحطة “ناتانز” وعدم السماح باستخدام منشآت أخرى لهذا الغرض.
* تحويل بعض المواقع النووية الإيرانية إلى مراكز أبحاث ورصد للبرنامج النووي الإيراني.
* تخفيض أجهزة الطرد المركزي المستخدمة في تخصيب اليورانيوم من 19 ألفا إلى ستة آلاف.
* نقل مخزون إيران من اليورانيوم المخصب إلى الخارج.
* رفع عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، عندما تتحققان من تطبيق الاتفاق.
* عدم رفع العقوبات المرتبطة بالإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان والصواريخ الباليستية طويلة المدى.
وتعليقا على الاتفاق حذر الرئيس الأمريكي، في كلمة ألقاها في البيت الأبيض، من إقدام الكونجرس على إفشال الاتفاق بدون إبداء أي بديل مقبول. يعني حتى هذا الأتفاق الصفعة ما زال معلقا على باب الكونغرس الجمهوري.
فإذا كانت فرحة خطيب جمعة طهران باعتراف العالم بـ “إيران نووية” ولكن سلمية، فلماذا إذن كانت مشاكسات اثنتي عشرة سنة، وتحمل عقوبات من شكل ولون، والعالم كله من البداية لم يطلب من إيران سوى سلمية برنامجها؟؟
ومن جانبه، حذر جون بينر، رئيس مجلس النواب الأمريكي، إثر الإعلان عن الاتفاق، قائلا إن ملامح الاتفاق تمثل انحرافا مقلقا عن الأهداف الأمريكية. وأعرب عن قلقه من أن الإدارة الأمريكية تعطي إيحاءات بأنها ستخفف العقوبات في المدى القريب.
ورغم أن ظريف خاطب مواطنيه الإيرانيين، بفرح غامر قائلا “إننا سنواصل التخصيب وسوف نستمر في أبحاثنا النووية” فلا تفسير لفرحه المغشوش هذا سوى أن إيران التي شربت السم، مرة ثانية، وتقبلت الصفعة بفرح ناوية على جعله اتفاقا (سياسيا) و(ديبلوماسيا) فقط، وأن ما تخفيه النخبة الحاكمة من نوايا لابد أن يكون غير ما ظنه الوزير المفاوض.
فلا يعرف ظريف شيئا عن حقيقة ما لدى النظام من أسرار برنامجه النووي، خصوصا أماكن الملفات والأجهزة المتعلقة بذلك البرنامج. ولا يملك القوة ولا الصلاحية لكي يجبر الحرس الثوري (الباسدران) على احترام الاتفاق الذي وقعه، وليس بقادر على منع استخدام أسلوب صدام حسين في تضليل المفتشين الدوليين، والتجسس عليهم، وإفراغ المواقع مما يخاف عليه، قبل وصول المفتشين، ولا يملك سلطة لمنع عرقلة المفتشين من دخول المواقع، بحجة انتظار الحصول على موافقات السلطات العليا على دخولهم، كما كان يحدث في عراق التسعينيات.
فليس وزن ظريف في النظام الإيراني بأفضل من وزن طارق عزيز وناجي الحديثي، في نظام صدام. وليس علي أكبر صالحي، رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية الذي انضم مؤخرا إلى فريق المفاوضين في سويسرا بأكثر قيمة من جعفر ضياء جعفر. فقد كان حسين كامل، وهو نائب عريف سائق دراجة في الجيش العراقي السابق، أقوى من كل وزير ومدير وخبير. ومكالمة واحدة من عبد حمود، مدير مكتب صدام حسين، تجعل أكبر رأس في الدولة يعرف حده ويقف عنده.
ومن كل ما تقدم ليس مستبعدا أبدا أن يعيد التاريخ نفسه مجددا، فيحدث في إيران ما كان يحدث في العراق، حتى سقوط النظام، من مماحكات ومشاكسات ومراوغات وعواصف واشتباكات بين النخبة من جهة، وبين المفتشين الدوليين وحمائم وزارة الخارجية، من جهة أخرى.
أما ما كان وما سوف يكون فلن يزيد شعرة واحدة عما حدث في النهاية لصدام حسين وعبد حمود وعلي حسن المجيد وبرزان ووطبان وسبعاوي يوم السقوط الأخير في 4 نيسان/أبريل 2003.
إيران كبرت كثيرا، وانتفخت أكثر، ومدت يدها في (خــُرج) القوى الكبرى ومصالحها وحساباتها في المنطقة. وهذا من الممنوعات على دولة من دول العالم الثالث، حتى وأن كانت بحجم الإمبراطورية الفارسية الجديدة.
وإذا كان الرئيس الأميركي السابق، جورج دبليو بوش، قد أبطل مفعول المد الصدّامي (السنّي) في المنطقة بيد من نار وحديد، فإن الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، كما بدا في لوزان، أطفأ نيران المد الإيراني (الشيعي)، وصفع الولي الفقيه على قفاه، ولكن بكف ملفوفة بالحرير.