ظلال المساكن القديمة

ظلال المساكن القديمة
آخر تحديث:

ياسين النصير

علاقة الظل بالمسكن عريقة، ابتدأت منذ الكهوف البيوت،وحتى اليوم، حيث يرافق الظل بناء أي مسكن، ولنقل إن الإنسان لا يمكنه العيش إلا في مسكن ينتج ظلًا، ولكن هذه المسلمة لا تؤخذ بمثل هذه البساطة، فقد قطعت علاقة الظل بالمسكن تاريخا طويلا كي تستقر على ما تعودنا عليه الآن في بيوتنا، إن البيت بدون الظل ليس بيتا، إن كان في المدينة أو في الريف والضواحي، ولنا أن نبدأ ببيوت القصب والطين والصفائح التي انتشرت في ضواحي المدن .
 لنجد أن مهمتها هي توفير الظلال للساكنين، أما مدى قوتها لمواجهة الأمطار والعواصف الترابية، وحرارة الصيف العراقي، فهذا حديث يتعلق بالجدران والسقوف وهي مهمة أخرى للظلال،المعنى أن الظلال جدار آخر يقي الإنسان من مغبة الاختراق والخوف. هنا، سنتحدث عن الأفياء الصغيرة التي ترافقها هناءات صغيرة ايضًا، وإذا كان بيت المدينة يوفر لنا ظلالًا دائمة، سيكون بيت الضواحي مرتهنا بالقيلولة وبعض هناءات النوم، لأنها من الضعف لايمكنها أن توفر للساكن أية هناءة  دائمة يمكنها أن تعيد توازنه المفقود.
في القرى يوم كنا جزءا من الطبيعة، نستظل في عز الصيف بظلال نخلة بجوار ساقية، حيث يقترن ظلها بالسباحة، نجد أن تلك الظلال كانت كافية لصنع هناء وهمي وسط عمل الفلاحة ، وعندما انتقلت ظلال البيوت بمفهومها العام إلى المدينة، قبل أن ينتقل الإنسان الريفي إليها، استوطنت بيوت المدينة مخاوف الإنسان الريفي من ظلالها، فسكان البادية يتطيرون من السقوف التي تحجب عنهم نجوم السماء وضوءها الشاسع، ولا يهمهم أن سقط الندى أو احتجب فالسماء البعيدة هي سقف ظلالهم الروحية، أما إنسان الريف الزراعي فكان همه أن يكون له سقف يصعد إليه في ليالي الصيف لينام فوقه، السقف يوازي متانة الجدران، وظلال الليل في العراء توازي ظلال البيت الداخلية، أي ثمة توازن توفره الزراعة الريفية لإنسانها من أنها قوت دائم حتى لو تغيرت الفصول، فظلالها تغطي كل احتياجاتهم المعاشية، حتى تلك التي ترضى بكسرة خبز حارة من التنور، على العكس من سكان البادية عليهم أن ينتقلوا في فيافيها وأبعادها طلبا للرعي والماء والكلأ، والبحث عن ظلال ترتبط بالرعي. فمساكن الريف سواء كانت في البادية أم في الريف الزراعي، لا تزال تحمل طابع البيت البدائي، والبيوت البدائية كما تقول الدراسات المثيولوجية ” تعطي انطباعًا بالراحة، فهي مجهزة بجميع الأشياء التي تعتبرها ضمن إطار المستوى الثقافي العام، جميلة وضرورية لأصحابها… فحتى أثاث الكوخ المتواضعة يصنع ويرتب بحس فني ولون بديع ” يوليوس ليبس، أصل الأشياء ص 24,
مالذي حدث وغيَّر من سياق علاقتنا بالظلال، سواء تلك التي تصنعها النجوم أو تلك التي توفرها السقوف؟ ما حدث هو أن تغيير مادة البناء، السبب في تغيير نوعية الظلال،فحين حولت المدينة  جدران القصب والطين والطابوق الفرشة والخيمة إلى الكونكريت والحديد والألوان المصنعة، والأبواب المقفلة والنوافذ العالية،والجدران السميكة، انعدمت الظلال، واختفت في الذاكرة، واختزنت لتخرج في لاحق الأيام كجزء من السيرة، لأنها لم توفر لإنسان المدينة القيلولة دون أن يصاحبهاأجهزة التبريد أوالتدفئة، وبالتالي زيادة في كلفة العيش، فكل بيت تدخله المدينية من نوافذها الصناعية تلغى منه الظلال الطبيعية، ليس تلك الظلال الروحية التي توفرها الطبيعة للأبناء فقط، إنما تلك التي تصنعها تكنولوجيا الحداثة أيضا.فالظلال التي تحجبها خيالات الجدران، ومخاف الخارج، وأقفال البيوت، واغلاق النوافذ، وسمك الستائر، وخفوت الأضواء، والمواقد النفطية، تلك هي التي يفتقدها إنسان الريف في المدينة، عندما لايجد ثمة شيء من الطبيعة بقي فيه،ولا لغة من تلك التي توشي النعم المدينية بالغيب والخيال يمكن أن ينطقها.
أين نجد لغة الرواية في أجواء تهرب منها الظلال، أو لا تستجيبالظلال لحركة الشمس ؟ لاشك أن الروائي من أكثر المؤلفين انشغالًا بتغييرات الزمن الموضوعي، وبتغيرات الزمن النفسي لشخصياته،وهم ينتقلون من الريف إلى المدينة،فحين يجد أن انتقال شخصياته تسبب له مشكلة لغوية،فقد يتلمس بوعي أولى أن سبب ذلك هو المتغيرات الروحية للظلال ، عليه أن يجد مفرداته اللغوية الجديدة  المشبعة بظلال اللغة البيتية القديمة بنفسه، لا أن يستلمها من الآخر، لذلك لن تكون لغة الشخصيات نقية من التحولات الصناعية فيها، وإلى أن تستقر لغة النص على قناعة بأنها تعبّر وتقيس هذا التحول، سيبقى ثمة قلق في بنيتها يدفعها بممانعة قبول الحداثة، ويبقى المؤلف في أصفى ساعات تأمله لمجرى حياة شخصياته، إنه يعيش في ظلال ذلك الحنين الى الطبيعة الريفية، الى هناءة النوم في ظلال سعف النخيل بجوار ساقية الماء، وإلى نشدان أغاني الفلاحة في حياته العاطفية كتمتمة لايمكن أن يرددها إلا هو، هذه النوستاليجيا تطمئن للتخلف بالرغم من تقدمية الكثير من الشخصيات، فنجد معظم شخصيات الرواية العراقية يرتبطون بالحركات التقدمية، لكن جذورهم وأقدامهم تبقى مقيدة بظلال تلك البنى المتخلفة التي كانت القناعة صناعة وهمية لكفاية العيش، وعندما تتغير الأحوال السياسية وتصعد فئات اجتماعية بإصول ريفية وبخطاب ديني،نجد الشخصيات المتريفين في المدينة تبحثمن خلال خطاب الساسة عن ظلالها القديمة،خاصة إذا كان خطاب السياسي موشى بمقولاتدينية وإقليمية وقومية وعشائرية، عندئذ يمكن لإنسان الريف أن يعيد وهم ظلال السعف وساقية الماءويدمجه  في وهم ظلال بيوت المدينة، دون أن يمهد لهذا الوهم المدمج لغة فنية مناسبة.
فبدلا عن التقدم وبيت الكونكريت،والاكتفاء به وتطويره،والتظاهر من أجل اصلاحه وادامته، يعيد المؤلف نغمة الخطاب السياسي للعيش في ظلال بيت الريف، ضمن حياة المدينة، هذه الإزدواجيةتبقي على إنسان المدينة متعلقًا بوهم التصالح بين ظلين مفترقين، أحدهما ظل الكونكريت وأعمدة الحديد،والظل الآخر يبقى متعلقًا بجذور بيت الطين وظلال سعف الساقية،فالهناءة التي تصنعها الظلال القروية،تضع الأساس لظلالحياة إنسان المدينة.فالمدينة بالنسبة للخطاب السياسي المهيمن على هذه الفئات الفقيرة، يركز على أن حياة المدينة جزء من ترف الدنيا الزائلة، بينما تلك الحياة الريفية النائية والتي تركها وهاجر إلى المدينة من أجل تحسين حياته وصحته، ليست إلا الحياة الحقيقية التي تؤدي به إلى الجنان. حقيقة أننا نعيش في ظلال الوهم من أن سكنة المدينة العشوائيين يمكنهم أن يصوغوا رؤية تقدمية ثابتة لمسار حياتنا، فالحياة غيرالمستقرة الظلال في المدينة،تسهم في بقاء المشروع السياسي الغائب عن المدنية قائمًا لأنها تؤسس لرؤية مغبشة لأي مشروع حضاري،فأضواءالتغيير الوهميالتي يبثها خطاب السياسة، سرعان ما ينطفئ بمجرد انقطاع تيار الكهرباء فتعود جدران الكونكريت ضاغطة على الهناءة الظلال الذاتية لقيلولة متعبة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *