عالمية الموروث السردي الشعبي

عالمية الموروث السردي الشعبي
آخر تحديث:

جمال العتابي

كثيراً ما يحتدم الجدال حول ثنائية (الوحدة والتنوع) التي تعد إشكالية مزمنة في الآداب والفنون، وإذا كان الأدب الشعبي يحتل الصدارة في هذه الإشكالية، ذلك أن هذا الأدب بقدر ما يستودع من خصوصيات الجماعات الشعبية المحدودة، وخصائص شخصياتها المحلية والروحية، يندرج في الوقت نفسه ضمن سياق عربي بين البلدان العربية، أو عالمي يشمل كل الأمم، على الرغم من تغاير الجزئيات والعناصر من جماعة إلى جماعة، ومن أمة إلى أخرى تحت تأثير المؤثرات المحلية.في المقابل لا تمنع الفوارق العرقية أو التباعد الجغرافي، أو التفاوت الاقتصادي، أو السلّم الحضاري، من التماثل والتوحد الفني والأخلاقي الذي قد يصل إلى حد التطابق أحياناً بين الروايات المختلفة للحكايات على اختلاف أنواعها. الجدير في الذكر أن ذلك التماثل ينسحب على حكايات التسلية والفكاهة، التي يفترض أن تصدر عن واقع نفسي وإنساني ذي خصوصيات متميزة، ومثل هذه الحكايات مرتبطة بشخصية واحدة، كما هو الحال في شخصية (جحا)، الموجودة في التراث الشعبي لشعوب متعددة، فهناك جحا العربي، وجحا التركي، وجحا الإيراني، والألماني والإنگليزي والإيطالي، والروسي والنيجيري. والحق أن الكثير من النوادر طافت ولا تزال تطوف بين الشرق والغرب غير مقيدة بحد، لا الحدود الجغرافية، أو القيود الزمنية تعين على تتبع خطوات هذا الانتقال ومعرفة أطواره، فالفكاهة والنوادر خارجة عن حساب الزمن، وشائعة في المجتمعات التي تداولتها.

فلا أحد يجادل في عالمية الأدب الشعبي، إنه على مستوى التلقي يعد أدب الجميع، يتداوله الناس في كل زمان ومكان، وهو على المستوى الجمالي موحد المظاهر والأشكال والوظائف بين الأمم المختلفة. وابتعاداً عن أي استطراد، سنتناول على وجه التحديد القصص الشعبي:

إن السؤال الأهم في هذا الصدد: أين يتمثل التوحد الجمالي والأخلاقي في هذا القصص، وللجواب عن هذا السؤال الجوهري في المعضلة، ينبغي أولاً أن نتذكر أن الناس يروون هذه القصص منذ قرون وقرون في كل بقاع العالم، بالطرائق نفسها، وحول الموضوعات نفسها، وللوظائف نفسها، فكل الأمم تجاوبت في الماضي والحاضر مع خوارق الحكايات العجيبة، وحكمة ورصانة الحكايات الشعبية، وسخرية ومفارقات الحكايات المسلية(النوادر)، وتجسيدية ورمزية الحكايات الخرافية الهادفة، بكلمة أخرى إن المرويات السردية الشعبية بما هي تعبير جمعي، قد وجدت في كل الثقافات ولدى مختلف الشعوب البدائية منها والمتحضرة على السواء، صوراً متشابهة.

وتضاربت آراء المشتغلين بالمأثورات الشعبية حول تفسير هذه الظاهرة، خاصة بالنسبة للحكاية الغريبة، إذ عمد البعض إلى تبني نظرية الأصل الواحد القائلة بنشوء هذه القصص في منطقة واحدة هي الهند، ثم انتشر منها إلى أنحاء أخرى في العالم، بوسائل متعددة، منها هجرة المجموعات السكانية من موطنها الأصلي، بينما ذهب آخرون إلى القول بالنشأة المستقلة لهذه القصص بين كثير من الشعوب، وأما هذا التشابه الذي يمكن أن يكون بينها، إنما يرجع إلى التشابه الأساسي للنفس البشرية، أو بسبب بعض المقومات العالمية الثابتة في الخبرة الإنسانية، إلى غير ذلك من الافتراضات.

الذي يعنينا هنا هو الظاهرة المعينة في حد ذاتها، بما يكتنفها من تداخل نصي، وتقاسم لكثير من خصائص القصص الشعبي وثوابته، كوحدة الموضوعات والأشكال والأبطال والأهداف، فعلى مستوى الموضوعات، عادة ما تعالج الحكاية الغريبة لدى مختلف الأمم  قضايا الزواج والغدر، والجزاء والعقاب، وما شابهها من تفريعات الخير والشر، عن طريق المغامرات ومواجهة الأخطار، وتسترفد الحكاية الشعبية موضوعاتها من مشكلات الحياة اليومية المعيشة مباشرة، بينما تعالج الحياة الخرافية مظاهر الظلم والطغيان ومواجهتهما، لذلك تمتلئ بالاعتداء والمكر، أما الحكاية المسلية(النوادر)، فغالباً ما تتركز موضوعاتها على الوجه الساخر من الحياة اليومية.

وعلى مستوى الأشكال، تتحدد الحكاية الغرائبية على نسق المراحل المحددة في البداية، والمغامرة(مواجهة المواقف الخطرة)، ثم النهاية، ثم الزواج، مع اعتلاء كرسي الحكم أحياناً، ومعاقبة الأبطال المزيفين، أما في حدود الأهداف، فإن الأمر لا يخرج في كل الأجناس المنتمية إليه عن أداء وظائف تتراوح بين التسلية والتنفيس، والتأثير التربوي والأخلاقي. وتبدو الحكاية الخرافية أكثر الأجناس السردية الشعبية مضاهاة للحكاية الغرائبية في نزعتها إلى العالمية، فهي على غرارها تمتد بجذورها إلى الحكايات البدائية، كما يعود مصدرها إلى الهند والإغريق، فضلاً عن كونها معروفة لدى جميع الشعوب القديمة والحديثة على حدٍ سواء، كجنس سردي وتراث خرافي متداول شفاهياً، فالحكاية الخرافية من أقدم أشكال الحكايات الشعبية، تتردد على ألسنة الجميع بلا استثناء، وموجودة في كل البيئات، وعند كل أمة، وبين مختلف الأجيال والطبقات. رغم اختلاف بعض الجزئيات والتفاصيل من شعب إلى شعب، تحت تأثير العامل المحلي بعناصره المتعددة: طبيعية وثقافية واجتماعية، ونفسية وعقائدية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *