عن “النخوّة” وصنّاعة الوهم … بقلم صباح علي الشاهر

عن “النخوّة” وصنّاعة الوهم … بقلم صباح علي الشاهر
آخر تحديث:

في الماضي، كما في الحاضر، ثمة حقائق تعيش في الظلام  كأنها أوهام، وثمة أوهام تعيش في النور كأنها حقائق، وأغلب الظن أنه لم يحن الأوان بعد للقول بأن الحقيقة حقيقة، والوهم وهم، هل يمكن الزعم، مجرد الزعم، بأن هذه واحدة من أسباب تخلفنا، ولعلها أس بلوانا.

إمرأة في الثغور، لم تجد من تستغيث به سوى المعتصم، فاستنجدت: (وامعتصماه!!)، فأنجدها المعتصم، وجيش الجيوش لإنقاذها من براثن الأسر، إذ كيف ترضى كرامة الحاكم أن تُذل إمرأة، وإن كانت في الثغور، لقد لامست إستغاثتها كما قيل لنا ( نخوة المعتصم) ، وهكذا أصبحت هذه الحكاية، التي تفتقد للكثير من الإقناع مصدرأً لدغدغة نخوتنا جميعاً، أضحى كل منا معتصماً، وهو يرويها، ويفاخر بها، ولامست لدى مثقفينا عامة، والشعراء بوجه خاص وتراً حساساً، بحيث كانوا أكثر من إستحضر هذه الواقعة، وكلما إشتد الواقع قتامة، وخذلاناً، وهواناً، كلما أشهروا هذه الحكاية، ولاندري بوجه من؟ بوجههم، ووجوهنا جميعاً، أم بوجوه الحكام الذين لا يرجى منهم خيراً، أم أن هذا ليس سوى قول، يعوض عن الفعل، لرفع العتب، وكفى الله المؤمنين شر القتال، والأمر المحيّر أنهم جعلوا هذه الواقعه محوراً لمطولات شعرية، بالترافق مع لا تساقط ثغورنا فحسب، وإنما تساقط أوطاننا واحداً بعد الآخر، وإزدياد نهبنا، وتكاثر أسرانا أكانوا رجالا أم نساءاً.. أهو تعويض عن الخيبة، والقهر، والعجز، أم هو رد العاجز المدحور، الذي لا حيلة له؟

لم يسأل أحد نفسه كيف وصلت الإستغاثة للمعتصم، والمعتصم قابع في قصره العامر بالجواري والغلمان، عبر الهاتف، أم الفاكس، أم الفيس بوك، أم بواسطة الحمام الزاجل؟ , ثم لماذ أثارت هذه الصرخة نخوة المعتصم، ولم تثره صرخات النسوة في دار الخلافة، ولا في اسواق النخاسة حيث كن يبعن كما تباع الأنعام ؟ , أتكون هذه المرأة المُفترضة في أحد الثغور، غير بنات جنسها في بغداد، وسامراء، والبصرة ، والكوفة، والموصل، وحيثما تصل خيمة الخليفة، الذي هو ظل الله في الأرض ؟.

لم يكن المعتصم بحاجة إلى هذه الفذلكة، التي صنعها أحد الكتبة، أو صناع الوهم، فالمعتصم قاد جيشاً، إنتصر فيه على من كان يتحرّش بالثغور، ولكن لا بأس بجعل الإنتصار إنتصارين برأي كتبة القصر ووعاظ السلاطين، إنتصار حقيقي، يتمثل بدحر المتحرشين بتخوم الدولة، وهو إنتصار يسجل للمعتصم، و ( (نخوّة ) لا محل لها من الإعراب في الأمور الجسام، ليست هي سوى وهم، إن لم نقل إفتراء، هل أرادوا نقل قيم مضارب القبيلة العربية إلى دار الخلافة،  والخلافة في هذه المرحلة قد نأت كثيرا عن قيم البداوة، وأصبحت قصورها مصهرا لقيم شتى، من بلاد الروم حتى مشارف الصين؟

تُرى لو أن المرأة الأسيرة لم تستنجد بالمعتصم، وتصرخ: ( وامعتصماه!) ، أو لو أن المرأة ليست هاشمية، هل كانت حميّة المعتصم لا تستثار؟ هل كان بإمكان المعتصم، وهو ولي أمر المسلمين، أن يصبر على ضيم المعتدين، ويرضى بقضم الثغور، والإعتداء على كرامة الأمة ؟ , لماذا دخل المعتصم الحرب، هل لرد إعتداء الجوار، غير المسالم، ولا المهادن ، أم لإنقاذ إمرأة من الأسر ؟ , ما المهم بالنسبة للخليفة الجالس على كرسي العرش، فك أسر إمرأة، أم الدفاع عن الثغور ؟ , بالنسبة للقيم القبلية، والجاهلية بالأخص، فك أسر إمرأة أهم من الثغور، التي ما كانوا يعرفونها، فالقبيلة لم تنشيء دولة، ولن تُنشيء، لذا فمعيار حكم الدولة، غير معايير حكم العشيرة .

لو قيل لي ما رأيك بحاكم يشن حرباً من أجل فك أسر إمرأة، ولا يحرك ساكنا في حالة قضم ثغور الوطن، فأني أقول دونما أي تردد، مثل هكذا حاكم لا يستحق أن يحكم , ولكن ألا نظلم المعتصم إن صدقنا الحكاية المُفتراة ؟أعتقد أن ما يزيد من قدر ومقام المعتصم، إنه إنتصر للأمة، ورد كيد أعدائها، أما أن يكون قد قامر بأرواح الجند من أجل قضية جزئية، يمكن معالجتها بطرق شتى، فإن الأمر يكون مدعاة للتساؤل، اللهم إلا إذا إعتبرنا قضية المرأة الأسيرة، كقضية المروحة التي ضرب بها داي الجزائر السفير الفرنسي، وكانت ذريعة لفرنسا لشن الحرب على الجزائر، ومن ثم إحتلالها، ولكن أكان المعتصم بحاجة لذريعة؟

ما نعرفه أن المعتصم سجل إنتصاراً عزز قوّة وهيبة الدولة، وحمى سكان الثغور من أي إعتداء، لكننا لا ندري هل بحث الخليفة في سجون الأعداء عن الهاشمية الأسيرة، وهل تم فك أسرها؟ كل هذه الأمور لم يتناولها المفبركون، فالرسالة التي أرادوا إيصالها وصلت، لا لإناس ذاك الزمن، وإنما حتى لزمننا هذا، زمننا الذي وصفوه زوراُ بالعقلانية.

هكذا نسجت الرواية

يُروى أن “تيوفيل” الروماني غزى” زبطرة” وأعمل السيف بها، وسبى أكثر من ألف إمرأة بعد ذبح أطفالهن، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وأنوفهم، ثم أغار على ” ملطية” وفعل بها ما فعل في ” زبطرة” , وكأن هذا غير كاف بالنسبة للرواة لإستثارة حميّة المعتصم، فأضافوا حكاية المرأة الهاشمية ( وبلغ المعتصم أن هاشميّة صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه! ، فأجاب وهو على سريره : لبيّك .. لبيّك !!)

لماذا ركّزت الحكاية على إستغاثة المرأة الهاشميّة، بحيث أصبحت هي المحرّك لنخوّة المعتصم، وليس سبي أكثر من ألف إمرأة وذبح أطفالهن، وقتل من وقع بيد الأعداء، وإستباحة دماء وكرامة المسلمين، والتمثيل بهم على النحو الذي ذكرته الروايات ؟ , والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة : لمن إنتصر المعتصم، لألف إمرأة من نساء المسلمين سبين بعد ذبح أبنائهن، وللرعية التي أستبيح دمها وهتك عرضها، وللحمى الذي أضحى نهباً، أم لإمرأة هاشمية، تلتقي نسباً بالخليفة؟

العقلانية تقول، أن المعتصم إنتصر للضحايا، ولكرامة وأمن الدولة، وهذا هو واجبه، الذي لم يتقاعس عنه، أما صناع الأباطيل، ومروجي الوهم، ليس عن حسن نيّة، وإنما نفاقاً وتزلفاً، فقد فبركوا فرية ما زلنا ليومنا هذا نرددها منتشين، غافلين عن كونها تسيء لمن نريد تمجيده، وترسل لنا رسالة تدفعنا، رغماً عنا، للتمسك بالخيمة في عري الصحراء , هل ثمة حاجة للتساؤل عن الأسباب التي جعلتنا غير قادرين على بناء دولة مدنية، رغم إنصرام تلك القرون الحافلة بالإنتصارات والنكسات؟ .

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *