لابد أنّ لدى رئيس هيئة النزاهة أسبابه كيما يعارض بهذه القوّة الفكرة الداعية إلى حلّ مكاتب المفتشين العموميين في وزارات الدولة ودوائرها، لكنّ الداعين إلى الحلّ لديهم هم أيضاً أسبابهم.
السيد رئيس الهيئة يكرّر القول دائماً إنّ حلّ هذه المكاتب يتعارض من ناحية مع الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، ولا ينسجم مع دعوات وسياسات مكافحة الفساد التي تطلقها الحكومة والبرلمان والشارع العراقي من الناحية الأخرى.
الاتفاقية الدولية هدفها النهائي اتّخاذ كلّ ما يلزم، من جانب الحكومات وهيئات الدولة المختلفة، لمكافحة الفساد الإداري والمالي، وكذا الحال بالنسبة لدعوات وسياسات المكافحة الداخلية.
بالتأكيد، يقف وراء بعض المطالبات بالإلغاء والحلّ فاسدون ومفسدون لا يريدون رؤية أيّ شكل من أشكال الرقابة على عملهم ومؤسساتهم ودوائرهم حتى يبقوا في مأمن من المساءلة وفي حصانة من ملاحقة العدالة. لكن هناك مطالبات تنبع من واقع أنّ العديد من الوزراء والوكلاء والمدراء وسواهم من أصحاب الحل والربط في الدولة قد نجحوا في وضع المفتشين العموميين ومكاتبهم في جيبوبهم ليصبحوا عوناً ونصيراً لهم في ممارسة فسادهم.
ذات مرّة حدّثني أحد وكلاء الوزارات بأنه وصلت إليه، للتوقيع والمصادقة، قائمة حساب تخصّ وليمة غداء أقامها أحد المدراء العموميين في الوزارة لضيوف شاركوا في ندوة نظمتها مديريته. قال الوكيل إنه كان من الواضح تماماً أنّ الأسعار مبالغ فيها إلى أبعد الحدود. فما مِن مطعم في بغداد أسعاره عالية إلى هذا المستوى، بما فيها مطاعم الفنادق ذات الخمس نجوم. هذا الوكيل أحال الأمر، كما أخبرني، إلى مكتب المفتش العمومي في الوزارة لتقصّي الأمر، فكان أن رفع المكتب، بعد تأخير، مطالعة بأنّ الأرقام صحيحة والمعاملة سليمة ولا يُمكن الطعن بها ..! وبالتالي فإنّ المدير العام يقف في الجانب الآمن ..!
في الغالب نسمع قصصاً من داخل الوزارات والدوائر تُفيد بأنّ “جهود” مكاتب المفتشين العموميين منصبّة على المخالفات الإدارية والمالية، المقصودة وغير المقصودة، التي يرتكبها صغار الموظفين (وهي ممّا لا ينبغي التهوين منها)، فيما يبقى كبار الموظفين، وفي الغالب المحسوبون على القوى السياسية المتنفّذة والجماعات المسلّحة، في حِلّ من تحقيقات المكاتب وملاحقاتها، بسبب ما لهؤلاء الموظفين (الكبار) من نفوذ وسطوة ترهبهما، أو تأخذهما في الحسبان، مكاتب المفتشين العموميين.
لا جدال في أهمية هيئات المكافحة، لكن السؤال: هل تعمل هذه الهيئات على النحو المطلوب؟
لما يزيد على العشر سنوات ظلّ الإرهاب يتفاقم في هذه البلاد، لأسباب يتقدّمها تواكل الدولة في محاربته، وتفشّي الفساد حتى في المؤسستين العسكرية والأمنية، وفي السنتين الأخيرتين فقط بدأت قصة النجاح في هزيمة الإرهاب تتواصل فصولها وتتصاعد. حصل هذا عندما آن أوان الشدّ وغادرت الدولة تواكلها وأعلنتها حرباَ ضروساً ضد الإرهاب لا هوادة فيها انخرط فيها الجميع. وهذا بالذات ما تحتاج إليه مكافحة الفساد، حرب حامية الوطيس لا تستثني حتى دوائر المكافحة نفسها .. لكنّنا في الواقع لم نرَ حتى الآن إلا جهداً متواضعاً لا يرتقي إلى مستوى الخطاب الناري الذي بدأ يطرق أسماعنا في الفترة الأخيرة.