أعلم أن من الصعب أن نكتب عن ظاهرة (اجتماعية، سياسية، اقتصادية) وهي ماتزال في طور الاعتمال والحركة، ولم تصل إلى نتائجها النهائية بعد.
ومع ذلك سأغامر بالكتابة، وأنا اعرف أن اغلب الكتابات التي تواكب الأحداث تكون مغلفة بالانفعال والآراء الآنية، وعادة ما تكون مبتعدة عن الاحكام الموضوعية والعقلانية، لأن الظاهرة يجب أن تدرس بشكل موضوعي لنقدم تحليلا شافيا لها، هذا هو حال اغلب الكتابات التي تناولت المظاهرات الجارية في العراق هذه الايام، ولا أقصد طبعا المتابعة الخبرية، إنما قصدت مقالات التحليل والنقد.
تشير سارة شايز في كتابها الصادر حديثا- 2015 في نيويورك والمعنون «لصوص الدولة.. لماذا يهدد الفساد الأمن العالمي؟»، إلى أن الكليبتوقراطية وهو مصطلح يعني (حكم اللصوص) مركب من مقطعين يونانيين؛ أولهما «كلبتو» بمعنى لص، وثانيهما «قراط» بمعنى حُكم، وعادة ما يكون نظام الحكم في تلك الحكومات في الأصل ديكتاتوريًا أو استبداديًا، ومع ذلك فقد تظهر الكليبتوقراطية في بعض النظم الديمقراطية التي انزلقت إلى الأوليجاركية (حكم القلة) وهو نمط الحكومة الذي يراكم الثروة الشخصية والسلطة السياسية للمسؤولين الحكوميين والقلة الحاكمة، الذين يكوّنون الكليبتوقراط، وذلك على حساب الجماعة، وإن التحليلات الغربية اتجهت إلى أن موجة الانتفاضات العربية جاءت نتيجة تضخم الأزمات المتعلقة بالاقتصاد الكلي لهذه الدول، إلى جانب المشاكل الطائفية والإثنية، بينما اتجهت تشايز في تحليلها إلى أن الفقر أو الظلم الاجتماعي، كعوامل مجردة منفردة، ليست هي الأسباب الحقيقية التي دفعت الشعوب للثورة على حكامها، لكن السبب الحقيقي هو وجود مزيج من استشراء الفقر المدقع بمعدلات كارثية، ووجود ظلم اجتماعي حاد، وهو الأمر الذي كان جلياً في مظاهر الحياة اليومية في تلك الدول، ففي حين كان الناس العاديون يعانون يومياً من الفقر والحرمان، كانت النخب السياسية والاقتصادية تقوم باستعراضٍ متباهٍ لثرواتها الضخمة، التي هي في الأساس جزء من الموارد العامة للدولة، والتي تحصّلوا عليها جراء عمليات الفساد.
إن التأثيرات السلبية للفساد الحكومي المُنظّم تتجلى في أكثر من صورة، منها إثارة الغضب الشعبي، حيث أن الفساد الحاد والمنظّم يعمل على إثارة غضب الشعوب التي غالباً ما تكون ضحية هذا الفساد، الأمر الذي يجعله عاملاً مؤثراً في إثارة الاضطرابات الاجتماعية والتمرد، التي يتم خلالها استخدام الوسائل العنيفة أو المزعزعة للاستقرار، وهذا هو التوصيف الدقيق لما يحصل في العراق اليوم.
إن أبرز ما يلاحظه المراقب للمظاهرات العراقية هو حالة الارتباك والتشوش التي تتسيد الموقف، فبدءا بالاسم، حيث اطلق عليها وصف تمرد، احتجاج، انتفاضة، حراك، بل وصل الامر ببعض المبالغين إلى إطلاق توصيف ثورة على ما يحدث في بغداد وبعض المدن العراقية، وأنا احاول أن اصف ما يحدث وصفا موضوعيا فاقول إنها مظاهرات شعبية، لم يتبناها حزب أو جهة سياسية أو منظمة من منظمات المجتمع المدني، وهي بذلك حراك شعبي عفوي، كذلك الامر بالنسبة لمن يقف وراءها أو المحركين الفاعلين فيها، اقول إن عددا من الناشطين والمثقفين والنخبة تنادوا على صفحات التواصل الاجتماعي للخروج، فكان ما كان في يوم الجمعة 31 يوليو الماضي، في بغداد وتبعته بعض محافظات جنوب ووسط العراق.
وهنا لابد من السؤال؛ ما هو السبب الذي أدى إلى خروج المظاهرات الان؟ المعلن انها احتجاج على سوء الخدمات، وتحديدا سوء الخدمات في قطاع الكهرباء، وجاء هذا الاحتجاج تزامنا مع موجة الحر الشديدة التي مرت على العراق والمنطقة، حيث تجاوزت درجات الحرارة (50 درجة مئوية) ومع تفاقم تردي قطاع الكهرباء في العراق، أصبح الامر جحيما لا يطاق، لكن كرة الثلج ابتدأت بالتدحرج لتكبر معها المطالب ولتشمل محاسبة الفاسدين وفتح ملفات الخراب العراقي على كل الاصعدة، من سوء الخدمات إلى الفساد الذي ينخر كل مفاصل الحكومة إلى ازدياد معدلات البطالة والتدهور الاقتصادي الذي اصاب بلدا يعتاش على البترول، بعد انهيار اسعاره العالمية، إلى المحاصصة الطائفية وتردي أحوال الجيش والقوى الأمنية، كل ذلك ظهر في شعارات المتظاهرين في لافتات رفعت لتصب غضبا شعبيا على رموز اعتبرت سببا في الكارثة، مثل وزير الكهرباء ونائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة ونائب رئيس الجمهورية ورئيس الجمهورية، هؤلاء كانت لهم حصة الاسد من الشتائم، لكن بعض الشعارات كانت تجمع كل المشاركين في العملية السياسية لتضعهم في سلة الفساد.
قبل انطلاق المظاهرات دعا بعض الناشطين بعض النقابات أو الاحزاب (اليسارية تحديدا) إلى تنظيم وتبني التظاهرات، لانهم غير ممثلين في الحكومة والبرلمان، بالاضافة إلى خبرتهم الطويلة في تنظيم الاحتجاجات، لكن الرأي السائد كان، أن من يشارك ليشارك بصفته الشخصية مع رفض رفع أي رمز أو يافطة باسم حزب أو جهة سياسية، لأن المظاهرات شعبية ويجب أن تبقى باسم الشعب العراقي اجمع، ومن هنا جاءت حالة التشوش، لأن كل مظاهرة أو احتجاج سلمي لا بد له من جهة عليا تنظمه وتنطق باسمه وتوحد مطاليبه لتقدمها للجهات الحكومية، ولتتفاوض معها على خطة عمل للخروج من الأزمة التي يحتج الناس ضدها، كل ذلك كان غائبا في المظاهرات العراقية فبدت وكأنها صرخة احتجاج على الجحيم العراقي الذي يصطلي بناره المواطن بينما لا تذوقه أو تعرفه النخبة السياسية الفاسدة.
بعد الصدى الذي تركته مظاهرات بغداد وبعض المحافظات، ابتدأت دكاكين السياسة العراقية حركتها الدؤوب لاحتواء أو امتصاص النقمة، بينما حاول بعض الساسة ممن يوصفون برموز الفساد بالتصريح بأنهم مع المظاهرات، وأنهم يتبنون مطاليب الجماهير، وهذه كانت النكتة العراقية للأيام السابقة، وابتدأ المتظاهرون برفع سقف مطالبهم لتشمل حل البرلمان وإقالة نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء وترشيق الوزارات عبر دمجها ببعض، واقالة وزراء المحاصصة الطائفية- الحزبية وتكليف العبادي بتشكيل حكومة تكنوقراط، تأخذ على عاتقها إخراج البلد من المأزق الذي يعيشه منذ 12 عاما، مع إلغاء هيئات الرقابة والنزاهة الحالية لما اصابها من فساد وتشكيل هيئات جديدة ترتبط برئيس الوزراء مهمتها فتح ملفات الفاسدين وادخالهم إلى السجون، واذا اردنا أن نصف هذه المطالب فلا نجد غير انها مطالب حالمة غير موضوعية وغير عملية وطوباوية لا يمكن تطبيقها في ظل الدستور والنظام البرلماني الموجود، الذي يحد من صلاحيات رئيس الوزراء، ما جعل البعض يطالب بتغير النظام البرلماني وتحويله إلى نظام رئاسي، بل طرح البعض امنيات بايجاد نموذج (سيسي عراقي) المقصود به الرئيس المصري السيسي الذي انتصر في معركة سريعة على الإسلام السياسي وأخذ يقود البلد إلى بر الامان، بحسب الضجة الاعلامية التي ترافق المنجزات المصرية، وكأنني ألمح طلبا مضمرا في ايجاد (المستبد العادل) الذي لا يمكن ايجاده في ظرف العراق الحالي.
في حالة من استمرار المطالب دعا المتظاهرون إلى استمرار المظاهرات في يوم الجمعة 7 اغسطس الماضي، لكن مع دخول متغيرات مهمة على المشهد، إذ دعت بعض حركات الإسلام السياسي إلى دخول انصارها إلى ساحات المظاهرات، والفصائل الداعية إلى ذلك كانت قد لعبت دورا مهما في الحشد الشعبي الذي يقاتل «داعش» ويحرز الانتصارات على الارض، ورغم ذلك رفض العديد هذا الدخول أو رفع شعارات الاحزاب الاسلامية في المظاهرات، لان بعض الشعارات المركزية في الجمعة الاولى كانت تهاجم بصراحة احزاب الاسلام السياسي مثل (باسم الدين باكونا «سرقونا» الحرامية)، وكانت المطالبات تطرح شعار (نطالب بدولة مدنية) وهنا لابد من الاشارة إلى أن اطلاق وصف (مدنية) على الدولة فيه التفاف ومواربة عن التوصيف الحقيقي وهو العلمانية، خوفا من سطوة الاسلام السياسي المسيطر على مفاصل الدولة والمجتمع، وها هي المرجعية الدينية في العراق تتدخل وتطالب رئيس الوزراء بالضرب بيد من حديد واتخاذ الاجراءات الحازمة تجاه الفساد وتحقيق مطالب المتظاهرين، بدون أن نعلم ما هي الآليات التي يجب أن تتبع، وقد ابتدأ العبادي حزمة اصلاحات منها اقالة نواب الرئيس ونواب رئيس الوزراء وترشيق الوزارات، ما ولد حالة التفاف جماهيري حوله، لكن هل هذا هو الحل المعالج لمشكلة العراق؟ نحن نرى أن العلاج الوحيد للمعضلة العراقية هو العلمنة الحقيقية للدولة والمجتمع، وكما يشير المفكر جورج طرابيشي في كتابه هرطقات -2 بالقول كيف السبيل إلى عقلنة ودمقرطة العلاقات بين الطوائف الاسلامية المتكارهة علنا وسرا أو تقية في ظل تغييب متعمد للعلمانية التي ما جرى اكتشافها وتطويرها في مختبرات الحداثة الاوروبية الا لتكون الدواء الشافي للداء الطائفي، واذا سلمنا جدلا أن الحل يكمن في الديمقراطية، فنحن نعلم أن عماد الديمقراطية الاول هو صندوق الاقتراع، ولكن في وضعية طائفية لن يصوت الناخبون الا لممثليهم الطائفيين. ونحن نعلم أن عماد الديمقراطية الذي لا يقل اولوية هو المنافسة السياسية بين الاكثرية والاقلية، لكن نجاح لعبة المنافسة مرهون ببقائها أفقية وببقاء الطرفين اللاعبين فيها مؤقتين في نصابهما الاكثري والاقلوي، بحيث يمكن لاقلية اليوم أن تصير اكثرية في الغد، وهكذا دواليك. والحال أن الاكثرية والاقلية في المنافسة الطائفية ثابتتان لا تتغيران ثم انهما اكثرية واقلية عموديتان تخترقان جسم المجتمع ولا ينحصر تنافسهما بقاعة المجلس النيابي.
اليوم تتناهب الشارع العراقي مشاعر أمل بانهاء الفساد والمحاصصة الطائفية وخوف من انتكاسة المشهد السياسي تعيده إلى الاختناق والازمة ثانية، ليبقى السؤال مفتوحا على العديد من الاحتمالات التي سنراها في المقبل من الأيام.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي