يبدأ فكر الحداثة وما بعد الحداثة حين يدرس التراث الشعبي لأي بلد دراسة علمية ووفق مناهج حديثة، فالموروث الشعبي هو القاعدة التي تستند عليها كل الدراسات الأكاديمية الخاصة بميادين المعرفة الأنثروبولوجية والفولكلورية، والروائية والشعرية، والاجتماعية، والنفسية. وفي العالم الحديث تعد مساهمات فلاديمير بروب في دراسته التاريخية المتميزة لمئة حكاية شعبية روسية، قد وضعت اللبنات الأولى لتوسع الدراسات اللسانية والأسلوبية واللغوية لاحقا، كما أن جل النظريات الاقتصادية والاجتماعية قامت على جذور شعبية، وتراث إنساني شامل لشعوب عديدة، كالماركسية والهيجلية وغيرها، ومن يتتبع الدراسات الأكاديمية عندنا يشخص ثمة قصورا واضحا في دراسة الموروث الشعبي دراسة ميدانية، إحصائية، تحليلية، ما يعني أن هذه الميادين الشاملة لكل الفئات الاجتماعية غائبة عن الدراسة والوعي النقدي، ناهيك عن التصور الفلسفي الذي يتعمق فيما لو درست الموروثات الشعبية دراسة حديثة، فكيف يتم ذلك وجامعاتنا العراقية لايوجد فيها كرسي للدراسات الشعبية. الأمر ليس بمثل هذه البساطة التي نتحدث عنها، فالموروث الشعبي من أصعب الميادين في البحث والتقصي واستخلاص النتائج، فهو غائر في كل المكونات الاجتماعية، وغائر أيضا في طبقات الأرض والمجتمعات والمتاحف والذاكرة الجمعية، ولذلك ليس من السهولة الأكاديمية أن تعالج مثل هذه الميادين برغبات فردية، أو بنوايا حسنة تجاه الحكاية أو الأمثال أو الصناعات أو الأزياء أو البناء والعمل وأدواتهما، والتقاليد، والأسواق، والأغاني والموسيقى، والجلسات الشعبية، والمضافات،وتقاليد الأعراس والوفيات، ونوعية الهبات، وطريقة منحها، وتقاليد الزواج، والكيفية التي تتم بها المصاهرة، كل هذه وغيرها لا تبرز مباشرة على السطح الاجتماعي إلا عندما تغيب الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، وظهورها لا يتم بطريقة منظمة، إنما بطريقة غامضة بحيث تصبح قوة قامعة لأي قانون وضعي، لذلك لا يمكن دراسة هذا الموروث دون دراسات ميدانية تفصيلية عن تشكل وانتشار أية ظاهرة ومدى امكانياتها أن تنسجم وروح العلم أو الخرافة. في السياق ذاته، بقينا نعيد إنتاج ما توصل إليه الدارسون الأوائل للموروث الشعبي، خاصة الأساتذة المصريين الذين أسسوا أرضية لهذه الدراسات، في حين أن الموروث الشعبي أصبح قوة بسلاحين في مرحلة التخلف السياسي والثقافي. ما نحتاجه اليوم، ونحن على أبواب هزيمة «داعش» أن يعاد النظر في هذا الموروث بطريقة علمية، فهو قد مهد الأرضية لظهور حركات غير منضبطة بتقاليد المجتمع المديني، ونجد إرهابيي «داعش» وغيرهم يستثمرون هذا الإرث الشعبي لتثبيت وجودهم الطارئ.