فلاديمير بوتين لا يأكل مكدونالد

فلاديمير بوتين لا يأكل مكدونالد
آخر تحديث:

بقلم: د. هيثم الزبيدي

لا أعرف كم مرة على المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما أن يعتذر. عندما أطلق فكرته الأشهر عن “نهاية التاريخ”، بنهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي وسيادة الليبرالية الغربية، رد عليه المفكر الأميركي صموئيل هنتينغتون بأن القادم هو “صدام الحضارات”. هذا ما حدث بالطبع، وإن كانت مفردة “حضارات” تبدو عسيرة الهضم في صدام الغرب مع داعش مثلا.

اعتذر فوكوياما بطريقته المعرفية عن “نهاية التاريخ” بعد عقد من الزمان وكتب عن عاملين يمنعان نهاية التاريخ. العامل الأول هو التقدم في علوم البايوتكنولوجي. يمكن، بحسب وجهة نظره أن تأخذ شعبا عنيدا مثل الأفغان وتحوله إلى شعب مسالم بالتأكد من أن كل ينابيع المياه لديه تحتوي على دواء بروزاك الذي يعالج الكآبة. العامل الثاني هو التقدم بالعلوم الفيزيائية وقد وضع في مقدّمتها ثورة الاتصالات والمعلومات. افتراضان استثنائيان نعرف تماما أن ما فيهما من الصح يعادل ما فيهما من الخطأ. الأفغاني الذي يحكم كابول الآن لا تبدو عليه آثار بروزاك، ويحمل هاتفا متطورا يمرر من خلاله أوامره بالمزيد من الانغلاق والتشدد.

الآن على فوكوياما أن يعتذر مجددا. ها هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمزق كتاب “نهاية التاريخ”. ربما يمكن القول إن من يساعده في تمزيق الكتاب هو الرئيس الصيني شي جين بينغ، بل وقادة القوى الصاعدة في العالم، بمن فيها قيادات دول الخليج.

الحرب الباردة هي في نسختها الثانية الآن. الرئيس الأميركي جو بايدن لم يوفر أحدا من العداوة. على روسيا أن تسمح بتمدد الناتو ليصل إلى حدودها من خلال انضمام أوكرانيا. على الصين أن تهذب من سلوكها التجاري والصناعي والسياسي وإلا هي العدو. على الخليج أن ينتج النفط وفق ما تراه الولايات المتحدة، لا قلة تزيد الأسعار وتضغط على المستهلك/الناخب من خلال زيادة سعر غالون البنزين، ولا وفرة تدمر صناعة النفط الصخري. الخليج ملام إذا أنتج كثيرا وملام إذا أنتج قليلا. طبيعة اللوم حسب المزاج السياسي السائد. ثقافة هيمنة خطيرة وصل بها الحال ألاّ تستطيع أن تميز بين العدو والصديق. من الوارد أن تجد من يبرر كل هذا بإطار فكري ونظرية سياسية. شيء مضحك. علاقتنا مع النظريات السياسية ليست حديثة، بل العالم شهد الكثير منها خلال قرنين من الزمان.

في خضم نشوة النصر مع نهاية الحرب الباردة، صارت النظريات تلقى جزافا. واحدة من أطرف النظريات التي تم الترويج لها أن الدول التي لديها أفرع لمطاعم مكدونالد للوجبات السريعة، لا يمكن أن تنحرف عن الديمقراطية الليبرالية.

افتتحت شركة مكدونالد الكثير من الأفرع في روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي. أكل الروس ساندويتشات بيرغر منها لأكثر من عشرين سنة. خلال هذه السنوات زاد الحس القومي الشوفيني لدى الروس وتبخرت الديمقراطية الليبرالية. البيرغر يملأ البطن شبعا، لكن منظر قوات الناتو على حدود روسيا يملأ العقل بالمخاوف. قوات على الحدود تعني الكثير لبلد شهد غزوات المغول من الشرق، والفرنسيين والألمان من الغرب.

الحرب الباردة غزو من كل جهة، بما فيها صواريخ “حرب النجوم” والتفكيك المنظم عبر حملة سياسية وإعلامية لمسخ الشيوعية – وهي تستحقها – للخروج بانهيار كامل للمنظومة السوفييتية وحلف وارسو.

اصطف الروس طوابير في وداع آخر وجبات مكدونالد. لم يكن وداعا مؤثرا لأن رحيل الاسم العالمي الشهير كان يجري ضمن موجة عداء لكل ما هو روسي. الماركات العالمية الشهيرة صارت تتسابق على إغلاق محلاتها. الأثرياء الروس مطاردون. الصحافيون ممنوعون من دخول الدول الغربية. البحث العلمي المشترك وضع على الرف. الرياضي الروسي منبوذ. الآلة الغربية السياسية والإعلامية شيطنت الروسي خلال أقل من أسبوعين.

حتى أقرب المفكرين والمثقفين الروس إلى العقلية الغربية، صاروا يعتذرون من شعبهم ويقولون إن “المحبة” الغربية كانت واجهة تغطي خوفا أو كراهية أو توجّسا. أين تقف من هذه المعايير، يعتمد على بعدك الجغرافي عن الحدود الروسية، وكيف تنظر إلى الأمور وما هو مدى تشابك مصالحك مع روسيا، المصدر الكبير للغاز والطاقة والغذاء.

رحيل الماركات العالمية والعداء لكل ما هو روسي هو عز الطلب بالنسبة إلى بوتين. لا شك أن بوتين كان ينظر إلى محلات ومطاعم هذه الماركات ويتذكر أنها دخلت روسيا في فترة ضعفها واهتزازها، خصوصا في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. يقول في نفسه: ارحلوا وأطلقوا عليّ ما تشاؤون من أوصاف كدكتاتور أو طاغية يهدد الغرب.

فكريا، ها نحن نودع واحدة من أسخف النظريات السياسية: نظرية بيرغر مكدونالد. من الواضح أن بوتين لم يتناول الكثير من وجبات مكدونالد.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *