في القراءة والتأويل

في القراءة والتأويل
آخر تحديث:

د. رسول محمد رسول

في بغداد، صدر كتاب الدكتور ناجي الفتلاوي (سياحة في الظل.. بحوث في العقيدة والفكر والإلحاد) عن دار قناديل 2019. والكتاب بحث في مجريات الحياة الراهنة ومناحي الفكر العربي الإسلامي. ونلتقي في “مقدمة” الكتاب مفاهيم يسوقها المؤلف كعماد رؤيوي لما سيناقشه في فصول الكتاب، لكننا نريد أن نقف عند “مدخل” الكتاب الذي غلبت عليه البنية التساؤلية، خصوصاً تلك التي تمتد إلى أنطولوجيا التفسير والتأويل بشفافية واضحة وجرأة نافذة المخاض.فالفتلاوي يفرّق ضمن معادلة الإسلام بين “الإمكان التاريخي” و”الإمكان البشري” ولعله يقصد الإمكان الإنساني.لإسلاميات النقديّة

وفي كتابه هذا، ينطلق الفتلاوي من تقديم ما يسميه “الإسلاميات النقديّة” بوصفها مرتعاً لكل اشتغاله في كتابه هذا، وربما في بعض مشروعه البحثي مترامي الأطراف برمته، لكنه يأخذنا إلى إشكالية التفسير والتأويل في “مدخل” الكتاب كما أسلفت، ويقدّم جُملة وفيرة من الأسئلة الخاصة بهذين الحقلين الحيويين في تاريخ الإسلام، وفي الوعي المعاصر وهو القائل بأن “المعنى في حياضه يشكّل حبل اتصال بين النص والمتلقّي”، وهذه ثنائية معمول التفكير فيها؛ إذ نراه يشكّك الفتلاوي في قيمة معنى النص، فلا “معنى جاهز في النص، وعلى فعل القراءة لذلك النص اشتقاق المعنى” بالانطلاق من مبدأ أساسي لديه وقوامه لا يمكن اعتبار أن “مصطلحات كل علم هي تالية له”، وهو أمر يعني بأن القراءة ليست تالية (After) إنما هي في صميم “لحظة الشروع بالقراءة – تلك التي – تفوح منها رائحة التأسيس لمعنى النص”. وما يريد قوله بذلك يفصح عنه الفتلاوي عندما يقول: “إن النص وبكُل عنواناته – الدينية والفلسفية والتاريخية والأدبية – هو لا يكشف عن ذاته، وإنما معناه يتكوّن ويُكتسب من خلال نوع الوشائج والصلات التي بُني بها”، وهنا يولد الإنسان، وهنا أيضاً نلاقي الانتصار الواضح لدور “القارئ” أو نحن على “المتن المقروء”؛ بل انتصار لتعدّد “معاني النص” عبر “تعدّد قراءاته التي تتعدّد بتعدّد أنواع الصلات التي تنتج بين من يقرأ النص وبين النص المؤسس”، وهو بذلك ينتصر لما يسميه “شبكة الوسائط المتداخلة بين المتكلّم بالنص ومحيطه الثقافي والاجتماعي والتاريخي البعيد والقريب والحاضر”، ويخلص إلى أننا “نرتبط بالنص المؤسَّس ارتباطاً وسائطي” الحضور، كما هو الحال في “التفاسير والتأويلات والفهوم المنتشرة” في عالمنا منذ القديم الإسلامي، لكنه ممّن يؤمن بأنه “ما من بدايات صفريّة للنص”، والأمر ينطبق على المتن القرآني بحسب اعتقاده.أنطولوجية التأويل والتفسير

يهتم الفتلاوي كثيراً بأنطولوجية التأويل والتفسير في الإسلام، فهو يتساءل: “هل يعد التفسير علماً؟”، وبالطبع: نعم هو العلم الذي بُنيت معالمه؛ وهو، تاريخياً، علم قائم برأسه منذ القديم، ويضيف: “كيف تم استمرار نشاطه – التفسير – ووفق أيّة سنّة تأويلية؟”، ثم: “متى تشكّلت معالم هذه السنة التأويلية؟”. 

كان التأويل موجود كأساس مؤصّل في المتن القرآني، فظهر في “سورة يوسف”، على سبيل المثال، أيّما ظهور جلي الطية، وغيرها من السور في كتاب الله (القرآن)، ولم يكن الرسول محمد (ص) ببعيد عن مفردة “التأويل”، فهو الذي تحدّث بها وفيها، فضلاً عن كونه المنادى بها، ونتذكّر دعاءه لابن عمّه عبد الله بن عباس (رض) بأن يعلّمه الله التأويل، وكان أشار إلى ابن عمه علي بن أبي طالب، عليه السلام، بأن الأخير سيقاتل على التأويل (انظر كتابنا: د.رسول محمد رسول: إنسان التأويل، الرباط 2020)؛ فكان التأويل بدأ مع نزول (القرآن) الكريم وفيه، واستمر مع الرسول الكريم (ص) وصحابته الكرام منذ القرن الأول الهجري، وعلائم ذلك كثيرة، ثم تشكّلت معالم التأويل في القرون، الأول والثاني والثالث، بنحو أكثر إبستمولوجية في التراث الإسلامي حتى قويت حقليته وتطبيقاته أو أنطولوجيته، ودليلنا على ذلك تتالي المنظومات التفسيريّة والتأويلية لآيات (القرآن) الكريم حتى نهاية القرن العشرين، بل وبعده.

ويتساءل الفتلاوي عن فرضية كمونيّة المعنى في المتن القرآني، وهل أن وظيفة المؤوِّل (Interpreter) تنحصر في استخراج المعنى من مكمنه؟ بالطبع خاض المسلمون مثل هذه التجربة في ضوء جدليّة الباطن والظاهر، ولكن المؤوِّلين زادوا الطين بلة عندما جيّروا الباطن للمصلحة الشخصية أو الأيديولوجية أو المصلحيّة أو الحركية المنحرفة، وكان الرسول محمد 

(ص) حذّر كثيراً من الهوى في تأويل آيات (القرآن) الكريم.ومن ثم يتحدّث الفتلاوي عن “مبدأ التكرار في التفاسير”، فهذا الكم الهائل الذي ورثناه عبر تاريخنا الإسلامي للمتن القرآني معلوم كثيراً، لكنه لم يكن تكراراً ساذجاً! فهل كان ذلك التكرار “واعداً ضمن السنّة التأويلية التقليدية؟”، يتساءل الفتلاوي.وهنا أعتقد بأن التأويل انصرف إلى مركزيّة المتن القرآني في الوجود الإسلامي بغض النظر عن الاختلاف في التفسير والتأويل وتعدّده المذهبي، وكانت التفاسير واعدة في هذا الخضم؛ فكتاب الله (القرآن) هو متاح للجميع، ومبذول للجميع، ومُشهر للجميع منذ شروقه حتى اليوم، وكذلك في الغد حتى يوم الدين، ولا أعتقد أن تكراريّة التفاسير والتأويلات تضر به إلا من زاوية الخروج على شرط التأويل والتفسير المستقيم والأخلاقي نحو الهوى والنزعة التدميرية والأدلجة الضارة بسبب هيمنة “البيئة المتحجِّرة” للمؤوِّل التي يعيش في كنفها المفسِّرون والمؤوِّلون، وهذا هو “الأفق المغلق”، كما يقول الفتلاوي، بصدد تأويل المتن

القرآني.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *