في بغداد وُلدت المقالة الأدبية

في بغداد وُلدت المقالة الأدبية
آخر تحديث:

د.فائق مصطفى
قال ابن الجوزي العالم والأديب البغدادي (510 – 597 هـ)، في نص من نصوص كتابه (صيد الخاطر):
((تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابَها أكثر من عمرانها… ثم تأملت المسلمين فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرَزّاق، وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه. فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لاسَكْرَ لها، ولا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوّي هوى النفس، وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها. كما قال عمر بن المهاجر، قال لي عمر بن عبدالعزيز: إذا رأيتني قد حِدْتُ عن الحق فخذْ بثيابي وهزني، وقل: ما لكَ ياعمر؟. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله من أهدى إلينا عيوبَنا.
فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظِ السلطانُ. وأما جنوده فجمهورهم في سُكْر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب الخمر، حتى ربما قال بعضهم: ايش يعمل الجندي، أيلبس القطن؟ ثم أخذُهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع.
وأرباب البوادي وأهل القرى قد غمرهم الجهل فلذلك كان تقلبهم في الأنجاس، والتهوين لأمر الصلوات، وربما صلت امرأة منهنّ قاعدة.
ثم نظرت في التّجار فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يروا سوى وجوه الكسب كيف كانت، وصار الربا في معاملاتهم فاشيا، فلا يبالي أحدهم من أين حصلت له الدنيا، وهم في باب الزكاة مفَرِّطون، ولايستوحشون من تركها إلا من عصم الله.
ثم نظرتُ في أرباب المعاش، فوجدتُ الغش في معاملاتهم عامّا، والتطفيف والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل.
ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلبا للكسب قبل أن يعرف ما يجبُ عليه وما يتأدب به.
ثم نظرتُ في النساء، فرأيتهنّ قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهنّ من الآخرة خبر إلا من عصم الله.
فقلتُ: واعجبا فمن بقي لخدمة الله عزّوجلّ ومعرفته؟. فنظرت فإذا العلماء، والمتعلمون، والعِبّاد، والمتزهدون. فتأملت العِبّاد والمتزهدين، فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده، وكثرة أتباعه، حتى أن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل، لئلا ينكسر جاهُه، ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى أن لايعودوا مريضا، ولايشهدوا جنازة، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم، ولا يتزاورون، بل ربما ظنّ بعضهم على بعض، فقد صارت النواميس كالأوثان يعبدونها ولايعلمون. وفيهم من يقدم على الفتوى بجهل لئلا يخل بناموس التصدّر، ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا ولايعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه، لا تناول المباحات.
ثم تأملت العلماء والمتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين من عليه أمارة النجابة، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب ما يصيره شبكة للكسب، إما ليأخذ قضاء مكان أو ليصير قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه ثم يكتفي.
ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه، فهو يؤثِر ما يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه، ولا يكاد يجد فوق معاملة الله سبحانه، وإنما همته أن يقول: ألا  إن الله لايخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل، عارف بحقوق الله تعالى، خائف منه. فذلك قطب الدنيا، ومتى مات أخلف الله عِوَضه، وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة.  ومثل هذا لاتخلو الأرض منه، فهو في مقام النبي في الأمة، وهذا الذي أصفه يكون قائما بالأصول، حافظا للحدود، وربما قَلّ علمه أو قلت معاملته. فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم، فيكون في الزمان البعيد منهم واحد.ولقد سبرتُ السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أرَ أكثر من ثلاثة: أولهم الحسن البصري، وثانيهم سفيان الثوري، وثالثهم أحمد بن حنبل. وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتابا، وما أنكر على من رَبَعهم سعيد بن المسيب، وإن كان في السلف سادات، إلا أن أكثرهم غلب عليه فنّ، فنقص من الآخر، فمنهم من غلب عليه العلم، ومنهم من غلب عليه العمل، وكل هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم، والنصيب الأوفى من المعاملة والمعرفة، ولا يؤيس من وجود من يحذو حذوهم، وإن كان الفضل بالسبق لهم. فقد أطلع الله عزّوجلّ الخضر على ما خفي عن موسى (عليهما السلام). فخزائن الله مملوءة وعطاؤه لايقف على شخص. ولقد حكي لي عن ابن عقيل انه كان يقول عن نفسه: أنا عُمتُ في قارب ثم كُسِر. وهذا غلط. فمن أين له؟فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحتقر نفسه على ذلك، وكم من متأخر سبق متقدما، وقد قيل:
             إن الليالي والأيام حاملة
وليس يعلم غيرُ الله ما تلدُ))
هل ينتمي هذا النص إلى جنس (المقالة الأدبية)؟ قبل الإجابة عن السؤال، نحاول أن نبيّن شروط “المقالة الأدبية”. وهذه الشروط أوجزها لنا أهم منظّر لهذا الجنس الأدبي في النقد الأدبي الحديث، زكي نجيب محمود. “أولا: يجب أن يكون موضوعها وهدفها “الإنسان” في جانب من جوانب طبيعته، على ألا يجيء ذلك بطريقة “العلوم الإنسانية” بل لابد أن يجيء بطريقة الإبداع الأدبي…. وأما الشرط الثاني فهو أنها – شأنها في ذلك شأن كل صورة أدبية أخرى – يجب أن تَنْصَبّ في “شكل” يدبّره لها كاتبها، أعني أنها يجب أن يقام لها “فورم” ينظّم على أساسه تتابع تلك الخطوط المستقلة… وغنيّ عن البيان أن تجيء “المقالة الأدبية” – كأي أدب آخر – حاملة في سطورها شخصية كاتبها، حتى ليقرأ له القارئ فيحس كأنه يراه أمامه متحدثا…” (حديث السنين 219-221).
واضح أن الشرط الأول متوافر في النص ويتجلى بشكل لافت للنظر، فموضوع النص الإنسان، وهدفه توجيه النقد إلى إنسان عصره بغية إصلاحه. والشرط الثاني توافر “الشكل” حيث قام النص على تجسيد تأملات الكاتب المتعلقة بمجتمعه ومعاصريه من البشر من مختلف الجماعات والمهن. إذ وجد فيهم سلبيات وعيوبا حسب منظوره كونه مثقفا ورجل دين في القرن السادس للهجرة. إن الكاتب وُفّق لتحقيق هدفه في نقد مجتمعه وإصلاحه بطريق غير مباشر لاوعظ فيه، طريق حقق التمييز والتفريد على حدّ تعبير زكي نجيب محمود، فالكاتب استطاع أن يعرض في نصه الخطوط العامة لموضوعه وكأن كل خط وحدة قائمة بذاتها، إلا أن الكاتب حرص على أن تتلاقى تلك الخطوط عند نقطة واحدة، هي النقطة التي أراد الكاتب أن يوصلها إلى القارئ، وهي ضرورة تغيير هذا المجتمع نحو الكمال. أما الشرط الثالث المتعلق بظهور شخصية الكاتب فيتجلى في تكرار الأفعال المسندة إلى تاء الفاعل مثل “تأملتُ…نظرتُ…وجدتُ…”، حيث بُني النص على تجارب الكاتب ومشاهداته الشخصية المتعلقة بموضوعات نقده للمجتمع. وكل ذلك يجعل القارئ كأنه يرى الكاتب أمامه متحدثا إليه. كذلك أسهم تضمين تناصات نثرية وشعرية، في تحقيق (أدبية) النص.
ومما يلفت النظر في نقد ابن الجوزي لمجتمعه، ورود نظرات وأفكار في غاية الرصانة والعمق مثل “ثم تأملت العلماء والمتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين من عليه امارة النجابة، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به…”. فالعلم الحقيقي إنما هو العلم الذي يأتي لتطوير الحياة والمجتمع وبناء شخصية الإنسان على أسس رفيعة من المزايا، وهذه الفكرة لانزال نرددها في زماننا الراهن حيث لاتزال نظرتنا إلى العلم والتعليم تقوم على الحصول على الشهادة والوجاهة الاجتماعية والحصول على الوظيفة فقط، دون الإفادة من دور العلم في تنمية الإنسان والحياة والمجتمع.
ومثل هذا النص، في كتاب “صيد الخاطر” كثير وكثير، وهذا ما جعلني أقول في كتابي (دفاع عن المقالة الأدبية): “لكنّ كِتابا لابن الجوزي يحمل عنوان (صيد الخاطر) وقع في يدي أخيرا فأخذت أقرأ فصوله، فإذا هي قطع نثرية قصيرة لاتختلف عن نصوص المقالة الأدبية إذ تتوافر فيها شروط المقالة وخصائصها كافة مثل الذاتية والأسلوب الممتع ووجهة النظر الخاصة العفوية…الخ. إذًن لِمَ لا نعدّ مثل هذه الفصول مقالات أدبية؟ ولِمَ لايكون ابن الجوزي الرائد الأول للمقالة لأنه عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، في حين عاش مونتاني (1533-1592) في القرن السادس عشر؟”.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *