لا أظنّ، بل استبعد، أن يكون هناك برلمان آخر على وجه كرتنا الأرضية قد أهان نفسه والحركة السياسية في بلاده بالطريقة التي فعلها مجلس النواب العراقي في جلسته الأخيرة المنعقدة أول من أمس.
ما فعله المجلس أنه اتّخذ بأغلبية الاصوات قراراً “يحظر حضور أو مشاركة السياسيين أو المسؤولين بالمؤتمرات داخل وخارج العراق دون موافقة السلطات العراقية”، بحسب النص المنشور في الموقع الالكتروني الرسمي للمجلس. لكنّ المكتب الإعلامي للمجلس أوضح في تصريح أن الحظر يتعلق بـ “المؤتمرات والاجتماعات التي تمسّ أمن الدولة والنظام السياسي وتضرّ في المصلحة الوطنية والتي تعقد في خارج او داخل العراق”.
قرار كهذا لا يليق الا بطلبة مدرسة ابتدائية او متوسطة في الكثير، فهؤلاء لا يكونون قد كدّسوا خبرات تؤهلهم للتمييز تماماً بين الصالح والطالح. أما الذين عناهم القرار، وهم أعضاء مجلس النواب والوزراء ومن هم في مستواهم والزعماء والشخصيات السياسية، فمن المفترض أنهم أعرف من عموم الناس بالصالح والطالح وبما يمسّ أمن الدولة والنظام السياسي وما يضرّ بالمصلحة الوطنية.
لم أسمع في حياتي أن برلماناً في دولة ديمقراطية قد اتّخذ قراراً من هذا النوع، لكنه أمر مألوف في الأنظمة الدكتاتورية الشمولية التي يكون فيها أمن الدولة والنظام السياسي قريناً بأمن الحاكم، والمصلحة الوطنية تُختزل في مصلحة الحاكم، كما هي الحال في عهد صدام حسين.
قرار مجلس النواب هذا إنّما يعكس جانباً من الجوانب المتعددة لفساد الطبقة السياسية المتنفذة. هذه الطبقة ما كان لها أن تكون وأن تتسيّد وتتحكم بأمور البلاد والعباد لولا نظام المحاصصة الذي أوجدته وكرّسته بديلاً عن الدستور المتضمن خارطة طريق لبناء نظام ديمقراطي فيدرالي.
نظام المحاصصة الذي تتمسك به الطبقة المتنفذة هو ما رفع من شأن أفراد، مكانهم الطبيعي في قاع المجتمع وعلى هامش الحياة السياسية، فجعل منهم نواباً ووزراء وقضاة ومسؤولين تنفيذيين في هيئات ومؤسسات عليا، لم يشكّل أمن الدولة والنظام السياسي همّاً لهم ولم تندرج المصلحة الوطنية في أولويات اجنداتهم.
السياسي الوطني، الداخل الى المعترك السياسي بسياق طبيعي، والمسؤول الوطني المتولّي المسؤولية في جهاز الدولة استناداً إلى كفاءته ووطنيته ونزاهته، لا يحتاج أي منهما إلى قرار مهين كالقرار الذي اتّخذه مجلس النواب … عقله وقلبه وحسّه وضميره تُدلّه على الطريق المفضية إلى عدم المسّ بأمن الدولة والنظام السياسي وعدم الإضرار بالمصلحة الوطنية.
ما فعله مجلس النواب العراقي أول من أمس ليس بالأمر السيء تماماً .. السيء هو نظام المحاصصة الذي جاء إلى البرلمان وسائر مؤسسات الدولة بنواب ومسؤولين يستحقون أن تُرفع العصى في وجوههم ليمشوا على الصراط الوطني المستقيم ..!