قصيدة وقراءة ..

قصيدة وقراءة ..
آخر تحديث:

بغداد: شبكة اخبار العراق – د. حمد محمود الدُّوخي القصيدة:_ عابرون هائمون، يقطعون طرقات مغبرة، يعبرون الصمت ليكملوا الرفض، أصواتهم عالقة بنوافذ من هواء، بانتظارِ أن توقظ المنسلخين عن ضمائرِهم، مؤلمة حروف الرفضِ حين يمر العابرون ويصير البقاء عبثا، حين لا يجدون مقاعد تقبل صداقاتِهم، ولا راغبين في دعوتهم للمكوثِ، هم الآن مثلي، لاشيء لنا سوى الذكرى حين تـرطب الذاكرة، أقتاد ما ظل مِن الصبرِ، أقطع المسافاتِ، أبحث عن زقزقةِ العصافيرِ، عن العصافير التي رحلت، حين آمنت أن لا ظِـل للشجر، وأن الريح قد خلعت جذورها، إن التعرف السريع على شخصية الشاعرة (وفاء الربيعي) المكتنزة فوضوية لا مصطنعة، وانتماء خلاقا للإنسان، يمكن القارىء الفاحص من التخمين الجاد بكيفية سريان المسارات الدلالية لكتابتها. وهنا في قصيدتها (عابرون) نلحظ هذا الاكتناز الرائع والذي نستشعره منذ استهلالها المكتمل بقولها:_ عابرون هائمون، يقطعون طرقات مغبرة، يعبرون الصمت ليكملوا الرفض، إذ يستند هذا الاكتناز الى دالة (هائمون) التوصيفية، وعلى دالة (يقطعون) ليتم _ أي الاكتناز – بـ (يعبرون الصمت ليكملوا الرفض) فبهذا الإعلان الشعري للاحتجاج الذي يعبر – بعبور الصمت – عن ثورة رفضٍ داخل الذات الشاعرة يرتقي مفهوم الاعتراض/ الرفض ليصير فعلا إنسانيا رصينا، فضلا عن الشعرية المكثفة في (يعبرون الصمت ليكملوا الرفض). بعد ذلك يبدأ الجزء الثاني من استهلالها بقولها: أصواتهم عالقة بنوافذ من هواء، بانتظارِ أن توقظ المنسلخين عن ضمائرِهم، ففي هذا الجزء نلحظ تعليلا لعبور وإكمال الرفض، كما أننا نرى الكيفية التي تقدم بها (وفاء) قولها الشعري المخصوص، أي الموجه لنوع محدد من درجات التلقي، فهي هنا تمنح اليومي في الشعري صفة الديمومة داخل القصيدة، على اعتبار أن القصيدة هي وثيقتنا التي سنحاجج بها السماء بمواقفنا على الأرض، إذ نلحظ وفاء مصلحا اجتماعيا يتخذ من الشعر لغة له. بعدها تدخل متن قصيدتها بتنشيط لما بشر به الاستهلال، بقولها:_ مؤلمة حروف الرفضِ حين يمر العابرون ويصير البقاء عبثا، حين لا يجدون مقاعد تقبل صداقاتِهم، ولا راغبين في دعوتهم للمكوثِ، فتنشيطها جاء بـ (مؤلمة حروف الرفضِ) لتؤكد للقارئ موقفها الرافض لكل فعل يصنعه المنسلخون عن ضمائرهم، وهذا التنشيط يرفع من نسبة حيوية القصيدة كونه يؤكد النظام القصدي الذي تحتفل به القصيدة، أي أن هذا التنشيط يكشف عن تخطيطٍ يضبط حركة الكتابة هنا. بعد ذلك تفاجئنا الشاعرة بالانسحاب من على خشبة العالم، بقولها:_ هم الآن مثلي، لاشيء لنا سوى الذكرى حين تـرطب الذاكرة، أقتاد ما ظل مِن الصبرِ، وفي هذا الانسحاب موقفان عاليان الأول هو وضوحها؛ فهي لم تصر الإصرار الفارغ على انتصار الإنسان المتخذ من العصافير أمة له في زمن الآلة المتخذة من القنبلة لفظة تفاهمٍ لها .. والموقف الثاني طموحها بالمحافظة على أناقة القصيدة، إذ بقيت تقدم دفقا صوريا عاليا تمثل بوضعين:_ • الوضع الأول هو تقمصها دور العابرين بقولها (هم الآن مثلي). • الوضع الثاني هو التعليل المتجانس الذي قدمته للحال المشترك بينهما؛ إذ تم التجانس بينها وبينهم من جهة، وبين (الذكرى والذاكرة) من جهة أخرى. أخيرا تقدم (وفاء) في عتبة الخاتمة صورة للهجرة الجماعية إلى المجهول المميت، بقولها:_ أقطع المسافاتِ، أبحث عن زقزقةِ العصافيرِ، عن العصافير التي رحلت، حين آمنت أن لا ظِـل للشجر، وأن الريح قد خلعت جذورها، هكذا تعرض لنا صورة الهجرة القاسية، فهي هجرة أممٍ من العصافير التي اكتشفت أن الأشجار بلا ظلال، ومثل هذا الاكتشاف يبين لنا أن وفاء شجرة دائمة الخضرة على أرض القصيدة وثمارها:_ اسمها، نقاؤها، عبثها الخلاق، وفوضاها المجدية.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *