كتاب(المواقف والمخاطبات) .. شعرا من فيض شرقي

كتاب(المواقف والمخاطبات) .. شعرا من فيض شرقي
آخر تحديث:

 بغداد/شبكة اخبار العراق- لا يذكر كتاب النفري المواقف والمخاطبات إلا وتذكر فيه شذرات التصوف ومنابع النص النثري الغريب فهل كان محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري شاعرا يكتب نصا نثريا شرقيا، أم علينا أن لا نعطي ذلك الكتاب قيمته الشعرية ونبقى أسيري نظرة قاصرة تعزز ثوابت التصوف بعيدا عن معرفة اللغة وحساسية شعرية النص المنفتح على التأويل؟ ربما تذهب الكشوفات وتجليات الروح وطهارة النفس،إلى فضاء القلب ولكن أين تذهب مواقف النفري وكيف تقرأ مخاطباته؟ وإذا كنا نشير إلى قصيدة النثر الغربية ومؤسسيها في محافل مناقشاتنا ومجالسنا وقراءاتنا فهل نؤكد للآخر بان قصيدة النثر الشرقية بدأت من كتب المتصوفة فكان النفري بابها المشرع للتأويل؟،آراء تنسجم وتختلف، تلتقي وتفترق ولكنها تشير إلى أهمية هذا الكتاب بحساسيته الشعرية وهذا ما يجعل الشاعر الستيني (عيسى حسن الياسري) يؤكد لنا بان كتاب (المواقف) كتاب شعري بامتياز .. بل يمثل أعلى قمم الشعر موضوعا وبناء فنيا .. ويعتبر تأسيسا رياديا لتحديث الشعر منذ قرون .. و يضيف «أوقفني في ثقب الإبرة وقال .. لا تبرح مكانك َ .. وإذا أراد الخيط أن يمر .. فأفسح له طريقا». إن النفري في مواقفه وجلال الدين الرومي في ثنوياته يعتبران من المجددين في الشعر أخيلة ورموزا وتشكيلا فنيا. اما الناقد والشاعر العراقي (علي حسن الفواز) فله رؤيته التي تؤكد «بان تجليات المتصوفة تمثلات شعرية كثيرا ما تتعالق لنجد فيها الفكرة الجمالية مع إشراقات الوجدان، في استحضار اللذة والعرفان، وفي امتلاك القدرة التعبيرية عن شغف الإنسان، وعن ما يتوق إليه.» ويضيف «ولعل شعرية النفري في مواقفه ومخاطباته، هي النص الرؤيوي، المسكون بالاستعارة العالية، المفتوح ما يوحي بأتساع الرؤيا بوصفها إشارات واستدعاء، وما يهجس بضيق العبارة عن الإتيان بالمعنى الكامل، فضلا عن ما يمكن أن تثيره، وتُطلقه كباعث لمقاربة روح الشعر، تلك التي يمتزج فيها الحسي مع التأملي، والرؤيوي مع اليومي، إذ يحضر الجسد بوصفه اللذة، وتحضر اللذة بوصفها تعاليا للجسد. ولعل أخطر ما تثيره شعرية النفري هو الطاقة المختزنة في النص/ الخطاب، وفي الهسيس الداخلي التي يمكن أن تكتنزه الروح الشرقية، روح السحر والغمر، والاستدعاء والتوالد والتناسخ، وهي بعض ما استكنهته القصيدة الشرقية، قصيدة التلاقي والتضاد والمفارقة والمماهاة».الناقد والأكاديمي (باقر جاسم محمد) كثيرا ما انشد إلى النص الصوفي ودرسه أعماق اللغة وفهم طاقته ساهم معنا في كشف الكثير من الآراء مبينا لنا «بان نصوص عبد الجبار النفري في كتابه (المواقف و المخاطبات) ممارسة إبداعية جديدة تماماً في الأدب العربي، و هي نصوص لا تتطابق، تماماً، مع مصطلح (قصيدة النثر)، و لكنها إذ تخلو من أوزان الشعر العربية التقليدية إلا أنها، في الوقت نفسه، ليست ذات جوهر عقلي نثري خالص، فيمكن إخراجها من نطاق الشعر و ما ينطوي عليه من تخييل ومجاز وكثافة وغموض، وليست هي بالشعر الخالص حسبما ألفته الشعرية العربية فيمكن إخراجها من نطاق الشعر. فهي تجمع بين أفضل ما في الشعر وأفضل ما في النثر، وتلك هي واحدة من أهم خصائص قصيدة النثر. ولعل عبارة النفري الشهيرة -كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة- تدل دلالة واضحة على ذلك النزوع الوجودي والقلق الإبداعي الذي يعرفه كل الشعراء والناثرون حين يواجهون مشكلة تحويل الرؤيا والحلم وأعماق اللاشعور إلى صيغة لغوية تتجاوز الحدود المعروفة للأشكال الأدبية». ويؤكد «ولذلك يمكن القول أن نصوص المواقف والمخاطبات هي المنجز العربي المكافئ لقصيدة النثر الذي لم يكتب له أن يجد من يتابعه ويضيف إليه».هذه وجهة نظر ناقد قرأ جيدا تاريخ التصوف العربي وفكك خطاب الشعرية العراقية بالتحليل الدقيق ولكن ما هو رأي الشعراء الثمانينيين ومنهم الشاعر (علي عبد الأمير عجام)؟ قد تكون رؤيته الشعرية مختلفة فيما يذهب إليه ادونيس بان النص (المواقف والمخاطبات) يحمل شعرا من فيض شرقي، يرى علي عبد الأمير «أن هناك جذرا عربيا لقصيدة النثر، ممثلا في شعرية النفري، لكن الجزم بان ما كتبه كان يمثل قصيدة نثر، يبدو أمرا في اقرب إلى الإدعاء الذي ساد الأوساط الشعرية العربية، اثر الحماسة التي أثارها ادونيس لنصوص المتصوف المنحدر من منطقة نفّر وسط العراق، فقصيدة النثر في إحالاتها الجوهرية إلى (المجانية) واتصالاتها الحارة مع الراهن والتدفق اليومي للأفكار والقرائن، تبدو بعيدة عن تلك اللغة الفكرية المصفاة والمحسوبة بدقة الصائغ وطهر العرفاني كما هي لغة النفري، حتى وإن تضمنت نصوصه بشيء من الإيقاع الداخلي وهو عنصر جوهري في قصيدة النثر سيرة النفري، لجهة انقطاعه عن الناس ووحدته وترحاله، انعكست في محاولته لتنقية فكرة تصوفه من الشروح والمبالغة ونقله إلى مدار إنساني حقيقي. ومن هنا جاءت إلى نصوصه (شبهة) أنها قصيدة نثر»…هل فعلا شبهة؟أن الأمر يدعونا لنكاشف عقلية شاعر سبعيني أحب النص الصوفي وتأثر به فكان قريبا من وجدانه وحساسيته ذلك الشاعر السبعيني (جبار الكواز) أعطى أهمية لمدار شعرية النفري فبين لنا «حين كتب النفري كتابه لم ينظر إلى مسألة جنسه الأدبي كما ننظر لها نحن في راهننا الأدبي وتشكل كتابات الصوفية وأضيف إليها نصوص الأدعية الدينية وبعض نصوص الخطابة العربية والرسائل العرفانية إضافة إلى أكثر نصوص نهج البلاغة للإمام علي وبعض خطبه الوعظية والسياسية»، و يكمل «تشكل حالة التقاء ما هو شعري بما هو نثري فلقد بقي الشعر في عصوره القديمة ملتزما بأطر شكلية سميت الأغراض التي وضعت من قبل بعض النقاد القدماء لبرمجة عمل الشعر خلال العصور ووضع تصور عن القيمة الشكلية واللغوية للنصوص وفق معيارية لا علاقة لها بالفن إلا من طرف بسيط ولهذا كانت نصوص النثر ارفع قيمة فنية من نصوص الشعر ولكنها لا تصل إلى تواصلية القصيدة بوصف الشاعر الناطق الرسمي لقبيلته أو رهطه». و يضيف «من هنا فان التعامل مع نصوص النفري وأشباهه من المتصوفة يجب أن يقوم على أساس من معيارية فنية خالصة هذه المعيارية تنصف هذه النصوص بما تعتمل من شعرية باذخة ورؤى عميقة تفلسف الحياة وتقترح حلولا روحية لمواجهة أسئلتها الوجودية. ولو نظرنا إلى نصوص النفري أنموذجا لرأيناها تزخر بالتكثيف والانزياح اللغوي والاختصار والدخول إلى لب الرؤية الصوفية للوجود وللذات الإنسانية بعامة طوال قراءتي لهذه النصوص كنت أتعامل معها بوصفها نصوصا شعرية خارقة للجمود المتداول قياسا بزمانها ومكامن حالات قولها لا يمكن لنا إذا كنا منصفين إلا أن نضع هذه النصوص كنواة لنصوص القصيدة النثرية العربية الجديدة. وكل محاولة لإلصاق هذه النصوص بمثابات النص الأوربي الحديث تصدم بمنجزات الأسلاف النثرية الخالصة ابتداء من أدعية الوعاظ والمتألهين والنساك والأئمة والصوفية كابي احمد الاباضي وعلي بن أبي طالب وابن رشد والنفري والسهروردي والحلاج والبسطامي وووو. وخلاصة القول أقول آن الأوان للنظر النقدي والجدي لهذه النصوص الخالدة من خلال معيارية فنية نقدية تضعها تاجا للشعرية العربية الحديثة التي تبحث عن آباء لها خارج حدود أطلسها اللغوي والتاريخي والروحي».لم ينته بحثنا مع المختصين في الشعرية العربية بل تعمق أكثر من خلال مشاركة الناقد (صباح محسن كاظم) فلطالما أصر على محبته للتراث الصوفي، فهو يرى «أن ثمة رؤى عميقة تتوسم في النص الشعري الصوفي، أو النص النثري الصوفي، أو بالمدونات الصوفية،فجموح الخيال، والرؤيا المتعالية، والذوبان الإلهي، والإخلاص في ما يعتقد الصوفي: إنه الذي يقربه إلى الله ويُبعده عن (الانخراط بالملذات والشهوات والتسافل الأخلاقي) ،تُشير إلى نص متكامل بالمعنى والروح والرمز والدلالة لذا بعض النقاد القدامى ومن المحدثين يعدوه نصاً،وليس نثرياً متميزاً بما يحمله من شعريّة مبهرة مدهشة تُحلق بتهويمات وخيالات وغموض وإيهام يوقع الالتباس ولا معنى له. ويندرج ما أقوله حول نص النفري كما يقول في المواقف: وقال لي: لا يكون المنتهى حتى تراني من وراء كل شيء. وقال لي: نَمْ لتراني، فإنك تراني؛ واستيقظ لتراك، فإنك لا تراني. وقال لي: كل واقف عارف، وليس كل عارف واقف. وقال لي: فإن العارف كالمَلِك يبني قصوره من المعرفة فلا يريد أن يتخلَّى عنها. وقال لي: المعرفة نارٌ تأكل المحبة. وقال لي: من علوم الرؤيا أن تشهد صمت الكل، ومن علوم الحجاب أن تشهد نطق الكل».هكذا يرى الشعراء والنقاد العراقيون قيمة النفري الشعرية من خلال كتابه المواقف والمخاطبات فهل يعي الجيل الجديد من الشعراء بان صاحب كتاب (المواقف) ربما يخاطبنا ذات يوم فيسألنا كيف تقف وين تقف فانظر إلى قلبك أين وقف فهو من أهل ما وقف فيه فلا تقوم لأنوارها المعارف ولا تسعها الأسماء.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *