كتاب عن دور الذات في صناعة العالم وتغييره

كتاب عن دور الذات في صناعة العالم وتغييره
آخر تحديث:

عقيل عبد الحسين

يقابل اليأس من الجماعة الذي تشدد عليه بلقيس شرارة في قسمها من مذكرات «جدار بين ظلمتين» (صدرت عن دار الساقي، 2003)، تشديد على دور الذات في صناعة العالم وتغييره في القسم المخصص لرفعت الجادرجي من الكتاب، فرفعت قريب الشبه بروبنسن كروزو يعمل دائما على جعل ظروف سجنه مناسبة للحياة البشرية، إذ هو يساعد في ترتيب المجموعة من السجناء ليستغلوا الوقت المخصص لتنظيف أنفسهم، وهو وقت قصير جدا. وهو يجد حلولا لمشكلات كثيرة واجهتهم من بينها عمل خوان مخصص للطعام حتى لا تلوث بقاياه الزنزانة الصغيرة. وهو يحل مشكلة الخلاف بين السجناء على تقسيم الثلج بشراء منشار لهذا الغرض، وتأمين بقائه بعيدا عن مصادرة الحراس الذين يمنعون وجود أية آلة حادة داخل الزنزانة. وهو  يجعل منظر الزنزانة جميلا بلصق جدارية كبيرة هي صورة فوتوعرافية لغابة من الأشجار. وذلك- كما يقول- غيّر الحالة النفسية في الزنزانة، وحوّل المكان من جدار وسخ باهت رصاصي اللون إلى نافذة تطل على أشجار حية. وأصبحت الزنزانة جميلة في تكوين مركباتها البصرية، وتعبر عن تناغم متنوع وفي حالة مباينة لما هو موجود خارجها حيث الفوضى اللا متناهية (ص262) والقبح. وفي الغالب لا ينشغل رفعت بالحديث عن وضعه النفسي في محنة الاعتقال في المخابرات، والعرض على محكمة الثورة، والحكم عليه بالسجن المؤبد، ومصادرة أمواله. وعلى العكس هو يحب شكله الجديد الذي يتسم بالهزال، ويحب لحيته المطلقة المليئة بالشيب. ويتمنى أن يجد مصورا يلتقط له صورة في وضعه هذا. ويأسف لأنه يحلق لحيته. هو مشغول بالعالم، وبجعله مناسبا للحياة أكثر من انشغاله بنفسه. والعالم الذي يُصنع بهذه الطريقة يكون عالما أكثر إنسانية، أو يمكن أن تنشط فيه العلاقات الإنسانية، فالسجناء كلهم،تقريبا، وبلا استثناء، طيبون ومتعاونون. وحين تؤثر الأصوات الصادرة من أكثر من مذياع يستعملها المسجونون،على رفعت وتشوش على قراءته وأبحاثه، يتكلم معهم، فيعتذرون، ويخفضون الصوت. وحين يحصل حدث ما، كإعدام مجموعة من السياسيين الكرد، يحزن من في الزنزانة كلهم، ويقول رفعت: أحسست بتعاطف العلاقة الإنسانية (ص272). وهذا العالم قياسا بالعالم الخارجي أقرب إلى اليوتوبيا، فيما يقترب ذلك من الديستوبيا في وحشيته وقسوته على الإنسان، وحتى على الحيوان. تقول بلقيس، التي تعيش خارج السجن، حين تجد القطة التي ولدت في حديقتهم تئن لفقدها صغارها: إن الوحشية انتقلت حتى إلى صغار الحي الذين جردوا هذه الأم من صغارها. أما الكبار فإنهم- محكومون بجو الرعب والإرهاب السائد- تنكروا لها، حتى الأصدقاء منهم، خوفا على وظائفهم، وعلى حياتهم، فمن يجرؤ على الاقتراب من عائلة رفعت الجادرجي المحكوم عليه بقضية تتعلق بتخريب الاقتصاد العراقي. وقلائل هم الذين ظلوا على وفائهم للعائلة ولبلقيس. إذ الحياة في الخارج تسودها السلبية فلا أحد يتدخل، أو يعترض، أو ينكر ما يرى من تخريب مستمر للحياة امتد إلى قطع أشجار الطريق خوفا من أن تكون مكانا يطلق منه أعداء الرئيس الرصاص عليه. وإزاء هذا الاستسلام تشتغل الذاكرة بفعالية عالية، فتعود إلى سنوات سابقة، سنوات الدراسة والحرية التي كان الأب يمنحها لبناته، وكانت مثار إعجاب زميلاتها اللواتي حرمن من الحرية بسبب تقليدية المجتمع العراقي، وسنوات اللقاء الأول برفعت، وسنوات زواجهما الأولى، وعلاقاتهما وأصدقائهما وسفرهما وعملهما. وهي ذكريات تنشط في سياق خراب الواقع الحالي ومواته. وفي سياق عجز بلقيس عن فعل أي شيء، فهي امرأة سجين وبحكم الأرملة. وهي امرأة في مجتمع لا يحترم المرأة. وهي بلا أب يسندها، وبلا أصدقاء. إذ يتجنبها الجميع. هل هذا هو درس السيرة الذاتية؟ لنعد التفكير في الأمر. السيرة هذه يكتبها شخصان، أو يرويها راويان، هما بلقيس شرارة وزوجها رفعت الجادرجي. وأحداثها تصل بسجن الزوج في أواخر السبعينيات من القرن الماضي لمدة عشرين شهرا تقريبا، وما أصابهما من أحزان وهواجس نتيجة تلك التجربة. وفي السيرة يتولى كل راو سرد جزء من التجربة بصوته، ومن منظوره. والمنظوران مختلفان باختلاف الجنسين والمكانين والرؤيتين. المرأة من خارج السجن برؤيتها المأساوية لما يحدث، ووقعه في نفسها. والرجل من داخل السجن برؤيته التصالحية التي تعيد ترتيب العالم بقدرات الإنسان. الأولى تنسحب إلى الذاكرة، والثاني يلازم الحاضر. والنتيجة إن هذا البناء على بساطته، وهذا الجمع بين صوتين ورؤيتين يعطي القارئ فرصة لتأمل ما ينبغي أن يكون عليه دور السيرة. فهل هي الانسحاب والتعزي بالذاكرة أم أنها مواجهة الحياة أيا تكن ظروفها، ومحاولة جعلها ممكنة إنسانيا. الأمران معا يمكن أن يجعلا السيرة الذاتية ممتعة ومفيدة للقراء . إذ تفيد الذاكرة التي يعتمد عليها قسم بلقيس من الكتاب في: أولا: فهم الزمن الذي كتبت عنه السيرة، وكان بدايات تغول البعث وسيطرة صدام على المصائر والبصائر، وما كان من انسحاب للحياة بمختلف مظاهرها الفنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وتراجعها، إلى حد بعيد، في فترة لاحقة. ثانيا: فهم تحولات النفس الإنسانية التي تتغير تبعا لظروف الحياة السياسية والاقتصادية؛ فالرعب الذي أوجده النظام الحاكم والإرهاب، خرّب العلاقات الإنسانية والحياة نفسها. ويفيد التوثيق الذي يتكون منه قسم رفعت من الكتاب، في تقديم الحلول الفردية لمقاومة الخراب، وإثبات جدواها. ونحن، في الحالتين، أحوج شيء، اليوم، إلى الذاكرة لمواجهة النسيان الذي قد يُفرض علينا من أية جهة، ولأي مبرر. وكذلك نحن بحاجة إلى عقد الأمل على قدرتنا الذاتية في مقاومة الخراب من حولنا، وفي تغيير العالم ولو بالحدود الدنيا التي تمكننا من حفظ إنسانيتنا.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *