كرسي المحافظ في البصرة… مسؤولية وطنية أم غنيمة سياسية؟

كرسي المحافظ في البصرة… مسؤولية وطنية أم غنيمة سياسية؟
آخر تحديث:

بقلم:د. نوري حسين نور الهاشمي

لم يعد منصب محافظ البصرة مجرد وظيفة إدارية أو مسؤولية خدمية محدودة، بل تحوّل مع مرور السنوات إلى ساحة صراع مفتوح بين القوى السياسية المختلفة. لقد أصبح الكرسي حلماً تتنافس عليه الأحزاب والتيارات، لا طلباً لخدمة الناس، وإنما سعياً وراء النفوذ والسلطة وتقاسم الغنائم. حتى صار المنصب في نظر الكثيرين أشبه بجائزة كبرى أو غنيمة سياسية، تُستنزف من أجلها الطاقات، وتُشعل في سبيلها النزاعات.وإذا ما استعرضنا ما جرى بعد عام 2003، سنجد أن البصرة كانت ميداناً لتجارب مريرة مع من تقلّدوا هذا المنصب. فالمحافظة لم تنسَ بعدُ كيف اضطر أحد المحافظين المنتمين إلى حزب سياسي للاستقالة بعد أن غمرتها المظاهرات الشعبية المطالبة برحيله، نتيجة ما رآه الناس من فساد وفشل في إدارة شؤونهم. ولم يمض وقت طويل حتى تكررت المأساة حين هرب محافظ آخر – منتمٍ إلى حزب آخر – إثر فضيحة مرتبطة بشركة غامضة تُدعى “هيل إنترناشونال”، تاركاً وراءه جرحاً غائراً في جسد الثقة بين المواطن والمسؤول.
لكن وسط هذه العواصف، بزغ أمل جديد حين تولّى المهندس أسعد العيداني المنصب. فهو ابن البصرة، وتربى في أحيائها، وتخرج من جامعتها، وحمل لقب “المهندس” باستحقاق حقيقي لا تزوير فيه. ومن هنا كانت الثقة به أكبر، إذ شعر الناس أنه واحد منهم، يعرف معاناتهم ويشاطرهم أحلامهم. وفي عهده، لم يقتصر الاستقرار على الجانب الأمني، بل لمس المواطن تحسناً في الخدمات والطرق والمشاريع، من ياسين خريبط إلى القبلة والحيانية والزبير، مروراً بالشوارع التي تربط قلب المدينة بأطرافها.
وقد كان لافتاً أن الإنجازات ظهرت بوضوح في الفترة التي غاب فيها مجلس المحافظة، مما عزز قناعة البصريين بأن غياب المجلس فتح المجال للعمل والإصلاح، بينما كان وجوده سبباً في التعطيل والمماطلة. وهكذا تشكلت صورة جديدة: مجلس يُفترض أن يكون داعماً للتنمية، فإذا به يتحول إلى عائقٍ أمامها.غير أن طريق المحافظ لم يكن سهلاً. فقد واجه حملات تشويه وتشهير لا تنتهي، بلغت حدّ استهداف أسرته وتوجيه التهم الباطلة إليه. كان أبرزها استغلال قضية شقيق زوجته لإلصاق المسؤولية به، وكأن المرء يُحاسَب على ذنوب الآخرين! وهنا يحضرنا قول الله تعالى:
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164]،
لتذكير الجميع بأن المسؤولية فردية، ولا يُحمَّل إنسان وزر غيره مهما كانت صلة القرابة. لكن الحملات الإعلامية والسياسية مضت في استغلال الحادثة أبشع استغلال، وكأن الهدف لم يكن كشف الحقيقة، بل تصفية الحسابات السياسية.
وأهل البصرة يدركون جيداً أن هذه الحملات لم تكن عفوية ولا بريئة، بل تقف وراءها جهات سياسية أعلنت صراحة رغبتها في انتزاع الكرسي بأي وسيلة. فقد سخّرت تلك الجهات جيوشاً إلكترونية، وأجّجت الاحتجاجات عند كل حادثة صغيرة، وحوّلتها إلى أزمات كبرى لإضعاف المحافظ وإرباك الشارع. لم يكن الهدف خدمة المدينة ولا رعاية أهلها، بل إعادة البصرة إلى حالة الشلل والاضطراب التي عرفتها سابقاً.
ثم جاءت حادثة الانتحار الشهيرة، لتفتح الباب أمام موجة جديدة من الاستغلال. فبدلاً من أن تُعامل المأساة بروح إنسانية تحفظ كرامة الضحية، جرى تحويلها إلى مادة إعلامية، ونُسجت حولها سيناريوهات أشبه بما يُعرض في أفلام هوليود. والجميع صار بين ليلة وضحاها محققاً بارعاً، يفتي بالتحليل والتأويل، في حين أن القضاء – بعد تحقيق مطوّل وفحص الأدلة – أصدر حكمه بأنها ليست جريمة جنائية. ومع ذلك، لم تتوقف الحملات، بل استمرت في استغلال المأساة سياسياً، لا حباً بالفقيدة، بل طمعاً في الكرسي.
وهنا نتذكر قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]،
لتذكير من يتلاعب بالقضايا الإنسانية بأن الظنون لا تُبنى عليها أحكام، وأن الاتهام بلا دليل ضربٌ من الإثم.
إن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه اليوم: هل يُراد لمنصب محافظ البصرة أن يكون أداة للبناء والتنمية، أم أداة للصراع والابتزاز؟
إن استغلال المآسي، وتسخير القضايا العائلية، وإطلاق حملات التسقيط، كل ذلك يعكس واقعاً مؤلماً: أن بعض القوى السياسية لا ترى في البصرة سوى بئر نفط يُستنزف، أو ورقة مساومة في بازار المصالح. متناسين أن هذه المدينة ليست مجرد ثروة، بل تاريخ عريق وحضارة ممتدة وركيزة أساسية في جسد العراق.
لقد حاول المهندس أسعد العيداني أن يثبت أن المنصب مسؤولية وطنية لا غنيمة حزبية، وأن الكرسي ليس هدفاً بذاته، بل وسيلة لخدمة الناس. أما الطامعون، فلن يتوقفوا، لأنهم لا ينظرون إلى المنصب إلا كوسيلة للاستحواذ على الثروة والنفوذ.
ومع ذلك، يظل الأمل معقوداً على وعي أهل البصرة. فهؤلاء ليسوا غرباء عن الحقيقة، بل هم الذين عاشوا التجارب، وذاقوا مرارة الإخفاقات السابقة، وعاينوا الفرق بين من يخدمهم بصدق ومن يستغلهم لمطامعه. إنهم أقدر على التمييز من أي جهة خارجية، وأوعى من أن تنطلي عليهم الحملات المأجورة.
وهنا نخاطب أهل البصرة الأصلاء بما قاله الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
فالتغيير الحقيقي يبدأ من وعي الناس، من ثباتهم أمام الشائعات، ومن تمسكهم بالحقائق لا بالأوهام.نقول أخيراً: لا نلتفت إلى حملات التسقيط، ولا نصغي إلى من يتاجر بآلامنا. نحن الذين حفظنا البصرة عبر القرون، وصنعنا لها المجد، وأثبتنا أنها عصيّة على الانكسار. مدينتنا ليست منصباً يتنافس عليه الطامعون، بل روح حيّة ومجد خالد وأمانة في أعناقنا جميعاً. فلنثبت على الحق، وندعم من يسعى لبنائها، على يقين أن البصرة – بحكمة أهلها وصبرهم – ستبقى منارة الجنوب ودرّة العراق.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *