كركوك عنوان الحرب المقبلة

كركوك عنوان الحرب المقبلة
آخر تحديث:

 بقلم: د. ماجد السامرائي

منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 كانت الأزمة السياسية الدائمة هي القضية الكردية وليست الطائفية، فالشيعة والسنة العرب هم الأساس التاريخي للعراق الواحد.قضية الأكراد استخدمت فيها مسألة الحقوق كغطاء سياسي بوجه العراق، فحقوق الأقليات من الطبيعي أن يتم تأمينها تحت ظل حكومة نظام ديمقراطي يضمن مصالح الجميع، وليس تلبية للمصالح الكبرى الطامعة بالعراق الغني بثرواته، حيث ظل مستهدفا واستخدمت القيادات الكردية عبر تاريخ العراق الحديث وخصوصا قيادة مصطفى البارزاني كورقة ضغط ومشاغلة مسلحة بعض الأحيان خلال المئة عام الماضية، رغم حصول فرص تاريخية للحلول السياسية مثلما حصل من نقلة نوعية للأكراد في بيان 11 مارس 1970 لم تتوفر لعموم الأكراد في كل من إيران وتركيا اللتين تفاجأتا بذلك الإنجاز المهم، الذي استبشر به الشعب الكردي وأنهى حقبة من الاقتتال الداخلي بين الجيش العراقي والحركة العسكرية الكردية بقيادة البارزاني.

اعترفت الحكومة العراقية حينذاك بالحقوق القومية للأكراد مع توفير فرص المشاركة في الحكومة العراقية واستعمال اللغة الكردية في المؤسسات التعليمية، ولكن لم يتم التوصل إلى حل حاسم بشأن قضية كركوك، التي بقيت عالقة بانتظار نتائج الإحصاءات لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في المدينة وتم التخطيط لإجراء تلك الإحصائية عام 1977 ولكن تلك الاتفاقية الفريدة قبرت قبل ذلك التاريخ بعد تعنت الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني وإعلانه حق الأكراد في نفط كركوك، ما فجر الأزمة من جديد ودفع الحكومة المركزية في مارس 1974 إلى إعلان الحكم الذاتي للأكراد من جانب واحد، دون موافقة القيادة الكردية.

ووفق ذلك القانون لم تقع مدن كركوك وخانقين وجبل سنجار من ضمن الحكم الذاتي للأكراد، وسعت إيران الشاه بكل الوسائل والأدوات لإجهاضه لأنه كان يشكل بداية انتقال نوعي يرمي الكردي من خلاله السلاح ويعود من الجبل إلى الحياة المدنية المستقرة، لا أن يظل أداة لمخططات الآخرين وحطبا للنار بين أبناء البلد الواحد.

وحين اتفق شاه إيران مع صدام حسين بالجزائر عام 1975 انهارت الحركة المسلحة الكردية، ولو كانت القيادة الكردية وقتذاك حريصة على مصالح الشعب الكردي لما استسلمت للإرادات الإيرانية والإسرائيلية والأميركية التي أعادت اللعبة الكردية مجددا بطرق أكثر إيذاء للعراق، بعد تنشيط الخدمة لقادة ومسؤولين أكراد في مقدمتهم عائلة البارزاني إلى جانب المخضرم جلال الطالباني رغم خصوماته الدائمة مع تلك العائلة بسبب المصالح والمال والتنافس على تنفيذ المخططات الدولية والإقليمية لتفكيك العراق، خصوصا بعد تعقيدات أوضاع العراق وشروع الإدارة الأميركية بمخطط إزالة نظام صدام مما زاد من رصيد تلك القيادات وحظوتها لدى واشنطن وتل أبيب، وظلت كركوك المحور الحيوي لإدامة الأزمة رغم مجيء نظام سياسي جديد أصبح للأكراد فيه دور المؤسس والشريك الفعال، وهم الذين أداروا الحكم إلى جانب الأحزاب الشيعية وفق تحالف استراتيجي، وهم الذين وضعوا في الدستور الفقرات الخاصة بالإقليم الكردي ومشروعية بناء أقاليم فيدرالية في بلد لم يكن مقسما إثنيا وعرقيا.

رغم ذلك ظلت قضية كركوك عالقة في الدستور كما كانت كذلك في اتفاقية مارس 1970 وقانون الحكم الذاتي 1974 لكي تبقى برميل البارود الموقوت الذي تلعب به القيادات الكردية مستثمرة الوضع السياسي لما بعد 2003 الذي كانت أهم علاماته الوهن والضعف وانهيار الدولة العراقية التقليدية وإحلال دولة المكونات وحل الجيش العراقي، وما حصل من انهيارات لاحقة في المنطقة. ولهذا وجدت قيادة البارزاني أن الفرص أصبحت مواتية لإثارة أزمة كركوك كقضية رئيسية ضمن مشروعها في الاستقلال عن العراق.

هذا المشروع الذي يدغدغ عواطف الجمهور الكردي بحلم “الدولة” رغم المعاناة المعيشية للأكراد في هذا الإقليم الذي توفرت له فرص الطمأنينة والحياة المستقرة. ولو كانت القيادة تقبل بالبقاء داخل العراق فيمكن التوصل إلى حل رضائي لكركوك، فهم يقولون إنها كردستانية أي تابعة للأمة الكردية حتى وإن كان فيها عرب وتركمان، بغض النظر عن الإحصائيات الرسمية، لكنهم بالمقابل يرفضون نظريا أن العراق جزء من الأمة العربية لأن ذلك في اعتقادهم “شوفينية”.

استفادت قيادة البارزاني من أزمة الحكم في بغداد وضعف حكومته وانشغال أحزابه بالمصالح الضيقة وتحكم إمبراطورية الفساد، ولهذا صعّدت من مطالبها لتدخل في مشروع الاستقلال عن العراق وهو مشروع خطير رغم بريق شعاراته للأكراد، والأخطر من ذلك هو جعل كركوك ضمن مشروع الاستفتاء المقرر في 25 من الشهر الجاري، بما يقود إلى مرحلة من التوتر ولتصبح كركوك بمثابة مركز الحرب المقبلة بين عرب العراق وأكراده في مخالفة صريحة للدستور العراقي الذي شاركت القيادة الكردية في وضعه.

وحصلت خطوات استفزازية مثل إصرار محافظ كركوك على رفع العلم الكردي على مباني المحافظة، مخالفا بذلك قرار البرلمان العراقي الذي يسري على كل العراق وضمنه محافظات كردستان.

القيادة الكردية تعلم بأنها غير قادرة على انتزاع كركوك من العراق رغم ضعف الحكومة المركزية ببغداد وتعدد مراكز التوجيه والقرار فيها، والأهم خضوع تلك القرارات لرغبات ومصالح طهران الطامعة أيضا بخيرات العراق، إضافة إلى تركيا التي تعتقد بأن كركوك “التركمانية” هي البقعة التي تحرك المشاعر القومية التركية وستكون حساباتها مع القيادة الكردية ذات شأن آخر.

كما أن بغداد وفي الحدود الدنيا لمستويات الإرادة الوطنية لا تستطيع اللعب بقضية كركوك لأنها قضية وجود لكيان العراق وليست أزمة عابرة. وأعتقد أن حسابات قيادة البارزاني ليست دقيقة في اعتقاده بأنه سيتمكن من انتزاع كركوك من حضن الوطن، وتحويلها إلى مركز المال والحامي الأول للدولة “الجديدة”.

إن الأزمة حاليا في مرحلة خطيرة بحاجة إلى إرادة عراقية قوية وقيادة سياسية مركزية قادرة على إصدار قرار واضح يقول بعراقية كركوك وعدم السماح بضمها إلى الدولة الكردية الجديدة.

ولم تتضح لحد الآن ملامح جدية من قبل الحكومة المركزية ببغداد في إدارة الأزمة، والتصريحات الإعلامية الباهتة بدعوة الأكراد للحوار حول المشكلات العالقة في الميزانيات أو القول بأن نتيجة الاستفتاء غير ملزمة، لا تتعاطى مع الأزمة بحيثياتها الواقعية، فالجماعة ذاهبون بعد أيام إلى الاستفتاء وكركوك ضمن المدن المعنية بذلك، فلماذا تصمت بغداد حول كركوك وهل هي قضية قابلة للتفاوض أم أن الحديث الإعلامي حول مرجعيات الدستور العراقي كاف؟

إدارة الأزمة من قبل بغداد تتطلب وضع كركوك كخط أحمر في أي تفاوض بينها وبين أربيل، ومن يريد الاستقلال عن العراق فليتم له ذلك ولكن من دون كركوك، ذلك أن مجرد وقوع الاستفتاء فيها حول الانفصال خصوصا بعد أن تم تكريدها سيجعل ذلك قاعدة لأي مفاوضات مقبلة ينتهي من خلالها الحديث حول المادة 140 في الدستور.

القيادة السياسية العراقية وأحزابها لا يمكن أن تتحجج بأولوية المعارك ضد داعش على المعركة الوطنية حول كركوك، فهذه قضية لا تقل عن قضية تحرير العراق من داعش الذي أراد اقتطاع جزء من العراق لصناعة دويلته الإرهابية.

لا بد من قيام حملة تعبوية شعبية تسخر فيها الفضائيات الحزبية والوطنية العامة بدلا من إشاعة تلك الفضائيات للطائفية والكراهية. ولهذا يجب على حكومة حيدر العبادي التمتع بالشجاعة لاتخاذ القرارات المصيرية الوطنية بشأن التمسك بكركوك وعراقيتها، وإذا ما تعنتت القيادة الكردية وانغلقت منافذ الحل السلمي وهو الخيار الأول، فهل تريد القيادة الكردية الحل العسكري؟ ومن سيساعدها في ذلك؟

المعطيات الدولية والإقليمية تغيّرت، وإذا ما توهمت القيادة الكردية ورغبت في الدخول بالحل العسكري فمعنى ذلك أنها تدخل حربا طاحنة ستخسرها وسيخسر الشعب الكردي مكسبه التاريخي بالسلام والعيش ضمن العراق الواحد وهذا لا يعني التخلي عن منح الحقوق القومية للأكراد ومن ضمنها الاستقلال بدولة “واهنة” من دون كركوك.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *