كم تمنيت ان اكون مثله !!

كم تمنيت ان اكون مثله !!
آخر تحديث:

كم تمنيت ان اكون مثله ، صديقي سعد الذي كان يفوق الجميع ذكاء . كان سعد مبهراً لي وانا اراه يحفظ الدروس عن ظهر قلب كأنه ماكنة استنساخ ، فما ان يدخل اي مدرس الصف حتى يرفع سعد يده من قبل ان يسألنا المدرس ، ويبدأ في سرد المادة المطلوب منا تحضيرها كلمة كلمة الواحدة بعد الاخرى من دون اي تلكؤ ، هل تظنون اني سابالغ عندما اقول لكم انه كان يحفظ رقم الصفحة واين توجد كل كلمة وفي اي سطر والفوارز والنقاط ، (ولاحظ كما في الشكل اعلاه ) ؟ لا لست مبالغاً أَبداً ، فكل الزملاء يتذكرون سعد طالب ، زميلنا في اعدادية الاعظمية والذي كان الاول على دفعتنا في تلك السنة ، وكنا جميعنا نحب سعداً ونوده لأنه شاطر ومهذب وخجول ومسالم ، وكنا نحترم عزلته عنا . لأن العزلة كانت من إِختياره هو ، كان أشبه بملاك وسط مجموعة من الشياطين .

كنا ونحن طلاب نتناقشُ في كل شئ ، الرياضة ، الفن ، الادب ، الدين ، السياسة ، ونحكي لبعضنا قصص الحب البريئة ومعظمها كان وهماً نصطنعه للمباهاة بيننا أَو هو حب من طرف واحد لا أكثر . لكن سعد لايشاركنا احاديثنا، كان منصرفاً لحفظ الدروس لااكثر . وقد كنا في شلتنا الصغيرة نتبادل الروايات ودواوين الشعر والطوابع والمجلات الفنية ، اما سعد فكان مشغولاً باستظهار المنهج المدرسي ولاشئ آخر . يدخل بيتهم بعد انتهاء الدوام المدرسي ولايخرج منه الا صباح اليوم التالي ودائماً ماكان يبكر في المجئ للمدرسة حتى قبل المنظفين ، فيما ناتي متأخرين ، وبعضنا كان يضطر لقفز السياج الخارجي لانه جاء متأخراً جداً او انه يريد ان يهرب من المدرسة مبكراً جداً . كان سعد الولد الوحيد بين اخواته الثلاث ، وربته امه على الدلال المفرط بعد وفاة ابيه في حادث مؤسف ، كانت تخشى عليه من النسيم لئلا يمرض ، وتحاسبه لو رأت ملابسه وقد اتسخت لانها تعتقد انه قد لعب مع اصدقاء السوء ، وكانت تعتبرنا كلنا اصدقاء سوء . يوما ما عملت له تحقيقا مطولا لان احد ازرار قميصه قد قطع ، اعتقدت انه دخل في معركة اولاد ، وبالكاد اقنعها بانها الزر قطع لأن القميص اصبح صغيرا عليه بسبب سمنته التي كانت تزداد يوميا لافراطها في زق فمه بالطعام ليل نهار . لم تكن امه تسمح له بالخروج الا في يوم الجمعه الى بيت الاقارب وبرفقتها ، وقد جربنا يوماً ان نأخذه معنا الى السينما لنخرجه من قوقعة مفروضة ، ولكننا حينما ذهبنا لبيته خرجت علينا امه وطردتنا وهي تتوعدنا بالمزيد لو جئنا ثانية لنفسد اخلاق ابنها .

ولم نزعل من سعد وقتها وقدّرنا ظرفه بمزيد من الحنو عليه . أكثر ماكان يتعب سعد درس الانشاء ، فهو لايعرف كتابة سطر واحد مما يطلبه مدرس العربية ، فكنت ابادر لمساعدته واكتب له اجمل انشاء في بضع دقائق يأخذ به أعلى الدرجات . ومع ذلك بقيت اتمنى لو كنت مثله ، بشطارته ومواظبته لكني لم اتمنى يوما ان اكون بكمية الخجل الذي فيه . صديقي الاخر والقريب لنفسي كان اسمه رغيد نهاد وكان اكثر اعضاء الشلة مرحاً وصخبا ، واكثرنا حباً للحياة ، لم اشاهده يوماً الا وهو يمزح ، يحرك كلتا يديه عندما يتحدث ، يأكل كل ما امامه بحب وشهية كبيرة ، من رواد المقاهي ، ولاعب دومينو محترف ، رياضي لكنه لم يبلغ شأناً فيها ، وفي ايام الامتحانات كنا انا واياه نذهب للسينما ، ولانبالي من تدني درجات نجاحنا . كان يكفينا فرحاً ان ننجح ، مجرد نجاح ، ونعتبرها من المعجزات . رغيد كانت لديه في بيتهم مكتبة عامرة ، وكثيرا ما استعرت منه كتبا ولم اعدها له للآن ، وكان يتسامح معي في ذلك فقد كنت اهديه كل عدد جديد من سلسلة المغامرون الخمسة بعد قراءتها ، حيث ابطالها تختخ وعاطف ومحب ونوسة ولوزة والكلب زنجر والشاويش علي فرقع .رغيد كان فتىً متوازناً ، ابنا باراً للحياة والمعرفة . وكان مثلي يحب سعد ، ولا اعرف لماذا كان يقول لي انا لا احب سعد بل انا اشفق عليه . ولم ادرك سر شفقته عليه رغم انه كان اول دفعتنا . دخل سعد الجامعة ، كان معنا في كلية القانون والسياسة ، لكنه كان في قسم القانون ، وكذلك رغيد قبل في قسم القانون معه ، وظل سعد يبهر الاساتذة بحافظته العجيبة ، فهو يجيب عن الاسئلة بالنص ويكتب على ورقة الامتحان بالنص . اما رغيد فقد كان عضوا في كل فرق الكلية ، في فريق الكرة الطائرة ، وكرة القدم ، في الفرقة الفنية ، في اللجنة الاتحادية ، ينظم سفراتنا الطلابية ، ويطالع الكتب العامة اكثر من الكتب المنهجية ، وكان قليلا مايهتم بدروسه ، لكنه لم يجد صعوبة تذكر في النجاح . وبينما نجح رغيد اكثر بقليل من الحافة ، فان سعد كان من اوائل دفعته في الكلية وقبل فورا في الماجستير بينما ذهبنا نجن الى الجندية لأداء خدمة العلم ، لكني سمعت بعدها ان سعد تعثر في دراسته ومدد سنوات كتابة اطروحة الماجستير لأكثر من مرة لكنه فشل في النهاية بكتابة الاطروحة مثلما كان يخفق في كتابة الانشاء . لم تكن لديه القدرة على الخلق والابداع فالتحق بنا بعد اربع سنوات من الفشل بالجندية . فرقتنا الايام ، وباعدتنا مشاغل الحياة حتى التقيت رغيد اليوم ، جاءني اتصال هاتفي لم اعرف مصدره ، وعندما عرفت انه رغيد رجوته ان نلتقي اليوم ، وكان ذلك .

جاءني رغيد ولم يتغير منه شئ ابداً ، سوى صلعة بانت على مقدمة رأسه ، هذا رغيد هو هو ، من دون تجاعيد وبلا كرش ، مايزال جسمه رياضياً ،مرحاً ، محباً للحياة ، يتحدثوهو يشير بكلتا يديه ، وحديثه شيق لايمل ويبعث في نفس المقابل ثقة ومصداقية عالية . لكنه نبهني بعد قليل الى شخص اخر معه ، قال لي هل تتذكره هذا زميلنا سعد طالب . سعد !!! معقولة !!! ياللزمن الجائر الذي بهذل وسامتك لهذا الحد ، هذا اول دفعتنا ، اشطر طلاب مدرستنا وقد استحال الى كيان متهدم . رحبتُ به كما تفرض علي اداب الصداقة القديمة ، اردت ان احتضنه باشتياق للزمن الغابر الجميل ، لكنه مايزال خجولاً ، واستقبل احضاني بمصافحة خجول ، وقد حاولت ان اشركه في الحديث معنا ، لكنه كان يتردد في ان يقول رأيه بأي شئ . عرفت من رغيد ، ان سعداً لم يتزوج للآن ، فقد ظل مع امه يرعاها وترعاه ، وانه اصبح متقاعداً منذ اربع سنين بسبب وضعه الصحي التي أثرت عليها سمنته المفرطة ، والحقه رغيد معه في مكتب المحاماة الضخم والناجح الذي يديره بمهارة عالية والكائن في عرصات الهندية . قلت لرغيد هامساً وانا اودعه ،: انت محظوظ ان سعد يعمل معك . اليس كذلك ؟ قال لي : كلما احتاج لرقم المادة القانونية وتفاصيلها اسأل سعداً عنها فيقولها لي بالحرف . – معقولة !! هل ماتزال لديه نفس القدرة على الحفظ . – نعم ماتزال لديه نفس القدرة لكني شخصياً لا احتاجه للعمل في المكتب ، فجهاز اللابتوب الذي اخزن فيه كل القوانين يستطيع ان يؤدي دوره بنفس الكفاءه ، لكنه موجود معي اكراما للصداقة ، واشفاقاً عليه . هل تذكر ياظافر كم قلت لك يومها اني اشفق عليه . – لماذا لم تكلفه بقضية ما امام المحاكم ، لتجربه . – فعلت ذلك ثلاث مرات ، وفي قضايا بسيطة ومضمونة ، لكنه خسرها الواحدة بعد الاخرى ، واخطأ في التكييف القانوني كما لايفعل اي محامٍ مبتدئ . وفيما انا اودع سعد طالب صديق دراستي ، اشفقت عليه ، اشفقت على شخص ذهب عمره دون ان يعيش تجربة حياتية ما . فقد ظل خائفا طوال عمره من التجارب الحياتية حتى البسيطة منها ، خائفا من ان تتسخ ثيابه ، ان يقطع زر قميصه في معركة اولاد صغيرة ، ان يخرج من البيت لوحده ، ان يصاب بعدوى مرض ، ان يقرأ كتاباً غير الكتب المدرسية ، ان يصادق أحداً ، أو أن يحب . لقد عاش سعد في الحياة ، على هامشها ، مرت عليه سنواتها وكأنه لم يعش فيها ابداً . فأشفقت عليه . سألته : ما أخبار الوالدة حفظها الله . فقال لي : توفيت العام قبل الماضي ، الى رحمة الله . لا اعرف لماذا خيل لي ان سعد وهو يقول لي نبأ وفاة والدته اني لمحت ولاول مرة ابتسامة خفيفة بدت على شفتيه .

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *