الى روح الفقيد خضير ميري.. المجنون الوحيد الذي عرف الحقيقة
1
حين قال جيمس بيكر لطارق عزيز ان اميركا ستعيد العراق الى عصر ما قبل الصناعة، ارتعشت فرائص الكثير من العراقيين خوفا على صناعاتهم، اهالي هبهب واهالي بعشيقة كانوا اول من شعر باقتراب الخطر، فهم المصنعون الوحيدون في العراق دون استيراد مواد اولية من الخارج.. وجيمس بيكر لم يكن كاذبا، بل على العكس تماما، كان واثقا من ادواته التي استعملها بعد عقدين من الزمن في اروقة البرلمان العراقي الذي اغلق بقرار ستراتيجي مصانع بعشيقة وهبهب، جيمس بيكر كان واثقا ان قردا مثل محمود الحسن سيتسلق مثل قرود كثيرين آخرين يوما ما نخيل العراق على اكتاف فلاحيه الذين ماعادوا يجيدون الزراعة بقدر اجادتهم اللطم والبكاء. وان سكارى العراق وخماريه الودودون سيلتجئون اخر المطاف للحشيش الفارسي والقات اليمني، وسيضعون الخنجر في احزمتهم حرزا لايام الشدة، وجيمس بيكر ، كان يعرف أيضا، اننا ان عدنا الى عصر ماقبل الصناعة، فان المرضى من العراقيين سيتجهون ( للتفالين) وللسحرة والمشعوذين بدلا عن الاطباء والجراحين، مثلما سيتجه اطفالنا قريبا الى الملالي والكتاتيب بدلا عن المدارس لارتفاع اسعار الكتب والقرطاسية ولخلوها من المقاعد الخشبية، ولان جدرانها وسقوفها ستتساقط قريبا بفعل فاعل قرد لقيط..
ولكن جيمس بيكر، لم يكن يعرف ان الشمس كانت قد عرضت عليها الولاية فقبلت ووافقت، لانها تريد الدخول الى الجنة لتحرقها عن بكرة ابيها، فبقيت ساطعة مشرقة، في حين امتنع القمر عن قبول الولاية لانه كان شيوعيا مؤمنا بمقولة كارل ماركس : الدين افيون الشعوب، فبقي خافتا راضيا بقسمته، فحقدت عليه وكالة ناسا وارسلت اليه من يطأه بقدميه، لتحطم اول اوكار الشيوعية قبل انهيار جدار برلين وكتلة الاتحاد السوفيتي..
ولم يكن يعرف أيضا ان العراق ما قبل الصناعة كان يملك مطارات وطائرات تقوم برحلات منتظمة من سومر واور الى المريخ الاحمر، وفي مطاراتها اسواق حرة يتبضع المسافرون فيها آنذاك مما لذ وطاب من اعناب وارطاب وخمر ونبيذ وافيون وحشيش، وان الالهة ( ابي سين) قد حفظ نسله في اصلاب اجيال واجيال بعد ان حط العيلاميون رحالهم في اور وخربوها تخريبا كاملا، وانهوا سلالة السومريين تماما، كما خربها اليوم العيلاميون القردة الجدد على امل القضاء نهائيا على ما تبقى من سلالة العراقيين..
ولكن بيكر رغم امركته، وديمقراطيته، كان يؤمن متيقنا بما قاله ماركس عن الدين، لانه يعرف عن قرب ان رجال الدين والاحزاب الاسلامية تفضل الافيون على الغذاء، والحشيشة والمخدرات على المشروبات الروحية..
2
مات صديقي على الطريق الرابط بين بغداد وطريبيل، لا تتعجلوا، فهو قد مات بنوبة قلبية على الطريق قبل مجيء القردة العيلاميين عام 2003، مات وهو في نهاية الثلاثينيات من عمره ولم يكن قد تزوج بعد متماهيا مع ابي العلاء المعري، الشاعر الفيلسوف الذي رفض الزواج حين راي الفساد والفوضى تعم الخلافة الاسلامية، وافترض انه لو انجب بنينا وبناتا، فانهم أو احفادهم، سيكونون اما ضحايا للقرود، أو اعضاءا في عصابات وميليشيات، فابى ان يكون سببا في ضياعهم، ومن يعرف المعري يعرف انه الذي طلب ان يكتب على قبره، (هذا ما جناه علي أبي، وما جنيت على احد)، وصديقي لم يكن شاعرا ولا فيلسوفا، ولكنه كان يؤمن ايمانا غريبا ( ببطل العرق) ويؤمن ان بيتا لايدخله العرق فان ابوابه ستكون
مفتوحة للشياطين، وكانت امه رحمها الله ورحم امواتنا جميعا، قد خطبت له وهو في العشرينيات من عمره العديد من عذارى مدينة الحرية، بغداديات انيقات جميلات رائعات، كنت قد التقيت ببعضهن ايام خطوبته لهن، ولكن للاسف كلهن فارقنه بعد ان يطلب منهن الاجابة عن سؤال غبي: هل ستشربين العرق معي؟.. لم يدرك عقله الكوميدي، ان ليس من امرأة مخطوبة في عالمنا الشرقي يمكنها ان تجيب بنعم؟.. ولم يدرك ايضا ان المرأة حين تحب زوجها، فانها مستعدة لدخول جهنم ارضاء له وحبا به، وليس شرب العرق فقط.. مات صديقي ولم يدرك ان العيلاميين الجدد سيمنعون العرق والخمور جميعها بقرار برلمان القرود..
3
في مطلع الثمانينيات اعدم النظام السابق صديقا لي بتهمة انتمائه لحزب الدعوة، واستمرت اجهزة النظام بمتابعة شقيقه الذي هو صديقي ايضا، وكان يطلب منه بين الحين والحين ان يحضر لمقر الحزب ويدلي بتصريحات متشابهة دائما عن سلوكه، حتى وصل الامر انهم لم يعد يسألوه عن شيء اكثر من حضوره وتبادل السلام والاحاديث الجانبية، غير انه مل وضجر مع الاحساس بثقل المراقبة لسكناته وحركاته، صديقي الذي مات على طريق طريبيل كان ايضا صديقا مشتركا لنا، قدم له حلا سحريا لم يكن يخطر على بال ابليس حتى، طلب منه ان يفترش باب البيت يوميا عند الغروب، وان يضع امامه بطل العرق وبعض المزات وان يدعو كل من يمر امامه لتناول العرق معه.. بعد اسبوعين فقط من تكرار هذه العادة، كتب ضابط الامن المسؤول عن مراقبته تقريرا جاء فيه: لقد (اصطلح المفسد)، اخر مرة زار فيها مقر الحزب استقبل استقبالا حارا، ولم يطلب منه تكرار الزيارة ابدا…
4
جلس يوما احد اصدقائي وهو كاتب مسرحي عراقي مهم حاز على جوائز عديدة، في نادي الفنانين ببغداد وبمعيته صديقين اخرين، وحين جاء النادل ووضع ارباع العرق والمزات المعهودة انذاك وعلى راسها الجاجيك امامهم، ملأ الكاتب المسرحي كاسين ووضعهما امامه، فاستغرب الاخران ذلك وسأله احدهما ان كان ينتظر وصول شخص ما، فكان رده: لا.. فعاد الاخر لسؤاله: لمن هذا الكأس اذن؟..
قال : لي..
استغربا من ذلك فلم تكن تلك طريقتنا نحن ( العركجية) فاراد ان يزيح تلك الغرابة في الموضوع فقال لهما: انا احب دائما ان يكون لي ( اثنين بيك اول) البيك الاول للكاتب المسرحي الذي تعرفونه، والبيك الاول الاخر للشاعر الذي بداخلي والذي لاتعرفونه، والذي لن يخرج لكم الا بعد ان تدغدغ الخمر دواخلي..
احتساهما واحدا بعد الاخر، وراح ينشد من الشعر مالم يكتبه ابدا ومالم نستمتع به سوى مرة واحدة..
5
قبل ثلاثة ايام من صدور قرار برلمان القرود بمنع الخمور في بلاد ما بين النارين، جلس احد الشعراء من حملة الدكتوراه في الادب، منزويا في غرفته، واضعا (بطل عرق) ودون مزة هذه المرة على المنضدة الصغيرة التي امامه، وتلاعب بهاتفه ليستمع الى اغنية ( ع اللي جرى) كما يحبها بصوت اصالة وصابر الرباعي، فشعرت زوجته بالغيرة بعد ان اعاد الاغنية لمرتين متتاليتين ظنا منها انه ربما يحب امرأة اخرى، فوقفت امامه واضعة يديها على خصرها، ناظرة اليه بغضب شديد، فقال لها وكان قد احتسى الكثير من العرق: تعالي بجانبي حتى احدثك بما جرى..
شعرت بالراحة قليلا دون ان تظهرها وجلست الى جانبه منتظرة.. اسكت صوت اصالة وهي تصيح بصوت عال: ( محدش قال عنك خبر يفرحنا ، ولا حد جاب منك كلمة تريحنا)
ثم قال لها: يعيب علينا بعض المعارف، والكثير من الناس، اننا، اقصد نفسي واخرين مثلي، حين قدمنا رسائلنا وابحاثنا لنيل شهادة الماجستير او الدكتوراه، كتبنا اهداءا الى الرئيس صدام حسين بمستهلها.. انت تعلمين ان رسالتي كانت عن الشاعر المتنبي، ماليء الدنيا وشاغل الناس، ولم تكن عن شعر الرئيس ولا عن رواياته..
قالت: ما الذي ذكرك بهذا الان؟..
قال: تخيلي ان احدهم ينال اليوم شهادة الماجستير بتقدير ( جيد جدا عال) عن رسالة في شاعرية (حسن السنيد)، وان مجموعة مما يسمون اساتذة ناقشوه واعطوه الشهادة..
صمت قليلا ثم قال: اذا كان الناس يعتقدون اننا تملقنا صدام باهدائنا رسائلنا اليه، فاننا قد تملقنا شخصا يستحق ان نتملقه، اما هذا الذي قدم رسالته بشعر السنيد فقد حيرني تماما.. فلا حسن بشاعر، ولا هو مهم كصدام حتى يتملقه أحد.. ما السبب اذن؟..
قالت له: انت تريد ان تضحك على عقلي.. قل لي سبب استماعك للاغنية بدلا عن هذه الترهات؟..
قال : السبب اني اريد ان اشرب ( البطل كله) واستحضر روح المقبور صدام حسين امامي في هذه الغرفة، فأقول له ( ع اللي جرى) بسبب غبائه وغروره وعنجهيته.
غادرته وهي تقول: ( لدوخ حبي.. اشرب عرك وتفوخ)..
وراح يستمع مرة اخرى لاصالة وهي تنوح: (متغربين احنه، متغربين.. تجري السنين واحنه جرح السنين)..