أوردت وكالة أنباء أميركية تقريرا كشفت فيه عن أعداد الضحايا من الأبرياء المدنيين الذين سقطوا جراء العمليات العسكرية التي جرت تحت عنوان “تحرير الموصل من تنظيم الدولة” وتصل إلى 11 ألف قتيل، وهي أرقام تتجاوز بأضعاف ما أعلنته المصادر الرسمية عن تلك الحرب.ورغم الاعترافات الخجولة للتحالف بمسؤوليته عن مقتل المئات من أبناء الموصل، إلا أن منظمة العفو الدولية وبالأسماء أصدرت قائمة تقترب من 10 آلاف ضحية، وعلقت على تقرير وكالة الأنباء “أرعبتنا هذه الأرقام الجديدة وإن لم تفاجئنا”.
ربما، وهذا ليس ببعيد، أن ترتفع هذه النسب الصادمة إلى أرقام إجمالية تقدرها بعض المنظمات المعنية بـ40 ألفا، منهم من مازال تحت ركام البيوت المهدمة، وهي أعداد لجرائم تنظيم داعش الإرهابي وجرائم تنظيم دولة إيران الإسلامية ومنهجها في الانتقام من المدن العربية على أيدي ميليشياتها الطائفية وحكومتها العميلة في العراق، إضافة إلى جرائم التحالف الدولي الظاهرة للعيان ونعني بها العمليات الجوية الساندة للقطعات الأرضية بما يحدث فيها من أخطاء بسبب المعلومات أو الغايات العسكرية الملحة، أما الجرائم الكبرى، وهي الأعظم، فهي كامنة في احتلال العراق وتسليمه المبرمج إلى النظام الإيراني المتخلف.
لا يمكن تصديق سذاجة الرؤية الأميركية لنوعية العلاقة بين العراق بعد الاحتلال، وبين النظام الإيراني مع وجود أحزاب عقائدية وبولاء مطلق لولي الفقيه، بل إن غالبية المنتمين لهذه الأحزاب قاتلوا ضد جيش وشعب العراق، أي ضد وطنهم الأم لاعتبارات مذهبية وطائفية.
ينطبق عدم التصديق على التسليم الأميركي بحقيقة احتلال داعش للموصل بإمكانيات التنظيم حينها مقارنة بما تمتلكه القوات النظامية من تجهيزات “أميركية” قُدمت بسخاء إلى تنظيم الدولة كغنيمة مشبوهة من قيادة حزب الدعوة الحاكم في بغداد ومن حكومة برئاسة نوري المالكي الذي يتغنى بأمجاده كمتعهد لتحقيق رغبات المرشد علي خامنئي في العراق.
أكبر إهانة لحقت بالسلاح الأميركي كانت في الموصل، وهي إهانة لا تغتفر في الأعراف العسكرية حتى في أبسط الجيوش تجهيزا وتدريبا. لماذا كان الرد الأميركي لا يتناسب أبدا مع جريمة نوري المالكي باعتباره القائد العام للقوات المسلحة؟
لماذا لم يخضع للاستجواب والمساءلة، أو على الأقل للتحقيق في قضية كيفما أردنا توصيفها لا يمكننا إغفال حقيقة تمريرها كصفقة شبيهة لتلك التي تجري بين مراكز الشرطة وبين المهربين على مختلف نقاط الحدود في دول العالم غير المستقرة، بادعاء النوم والاستراحة في توقيتات متفق عليها، أو تحمل تهمة الإهمال عند المحاسبة في الحالات القصوى للتخلص من جريمة التواطؤ.
نوري المالكي وقادته لم يكونوا نياما أثناء عبور مهرب. لقد سلموا الموصل وأهلها مع تجهيزات عسكرية تحلم بها الكثير من الجيوش الوطنية، مع ما في الموصل من خيرات صنعت من تلك المجاميع دولة في العراق والشام. دولة كلفت العالم أموالا طائلة وقلقا استدعى الجيوش وتجاذب السياسات للانتهاء منه وكلّفت العراق دم أبنائه.
لكنها كلفت الموصل غاليا بتدمير تاريخها وحضارتها واستقرارها، وشردت ناسها إلى الخيام أو إلى المقابر. لماذا قُيّدت جريمة احتلال الموصل ضد مجهول والمجرم يتصدر مع مجموعته المشهد السياسي في العراق؟. إن في احتلال الموصل أو في تحريرها، فالهدف واحد والمبرر واحد ومازال فاعلا على الأرض العراقية والعربية.
ما جرى في القائم والمدن القريبة منها مؤخرا، من سلب ونهب واختطاف وحرق لدور العبادة يمثل إصرارا على إذكاء الصراع الطائفي، ورغم ما يقال عن حصر السلاح أو ربط الميليشيات بكرسي رئاسة الوزراء أو إصدار تعليمات من المرجعيات الدينية لتهذيب جموح تلك القوى ومن يساندها من شخصيات وأحزاب.
كل تلك الطروحات توفر مجالا خصبا لاستمرار الميليشيات ونهجها، بل إنها تزداد ثقة بها؛ لأنها تأتي في توقيتات انتقالية من مرحلة لأخرى وضمن توجهاتها ومخططاتها المسبقة في تناغم يستحيل أن يكون عفويا، كما في التمهيد للانتخابات من الفصائل الميليشياوية.
النظام الإيراني هو الرابح الأكبر من الخسائر العربية عموما، والموصل تحديدا، فهي المدينة التي أنجبت خيرة الضباط العراقيين ومن مختلف الرتب من الذين ساهموا في تركيع المشروع الطائفي على حدود العراق الشرقية في حرب الثماني سنوات. ومن أهل الموصل وحدات عسكرية بالكامل قاتلت بروح الانتماء لها ولأهلها بالضباط والجنود. النظام الإيراني يدرك جيدا تلك التفاصيل، كما يدرك أن العراقيين قاتلوا تحت راية وطن واحد من فاو البصرة إلى عمادية زاخو وامتزجت دمائهم في خندق العراق. الأحزاب زائلة بأيديولوجياتها، والحكام زائلون مع مناصبهم وميليشياتهم؛ لكن الشعوب باقية. وهنا مربط الحكمة في التفكر بالتعايش والتآخي بين أفراد المجتمع على اختلاف خصوصياتهم القومية والدينية والمذهبية والعرقية، لأنها ضمانة كل تقدم ورخاء في المستقبل.
ما تفرقه السياسة ومكائد الأحزاب والمخططات الهجينة، توحده الشعوب الحية والواعية القادرة على استدعاء ذاكرة ماضيها واستشراف نوعية ما ينتظرها من حياة لائقة بها.
جرّب العراقيون في تاريخهم الحديث معنى التحرر واكتساب المعارف العلمية ومواكبة التطور ومرت عليهم الخطوب كذلك؛ لذلك فإن الالتفات إلى ما يجمعهم في وطنهم يكمن في عدم السماح برسم الحدود الفاصلة بينهم وبين أهلهم. فكم من الأكراد أو المسيحيين أو الأيزيديين أو التركمان أو الصابئة المندائيين كانت لهم قرابين دم مع إخوتهم المسلمين بمذاهبهم وعروبتهم. من ينسى من المقاتلين البررة ذلك القائد الأيزيدي الذي كان لا يأكل إلا مع جنوده أو يقاتلوا دون أن يقاتل معهم، حتى أن القيادة العسكرية نبهته بالحفاظ على حياته ودوره القيادي، إلا أنه في ليلة مواجهة دامية تقدم الصفوف مع قدمات جنوده المهاجمين ليلهب حماسهم، حتى أنه قال لهم قبل بدء الصولة “إذا رأيتموني خلف أحدكم فأعلموا أنني لست قائدكم”. كان انتصارا مشهودا ومدويا فيه عبرة لمعنى الذود والدفاع عن الوطن والمواطنة. استشهد باشا في تلك المعركة، وهذا اسمه ورحل الكثيرون معه، من قبله ومن بعده، لتظلّ للوطن تلك المعاني الخالدة والسامية.
الموصل عاشت في العام 1959 تفاصيل مجزرة نكراء اقترفها الحزب الشيوعي العراقي في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، وبعد سنة واحدة من مقتل الملك فيصل الثاني وقيام النظام الجمهوري. بشاعة الجرائم الموثقة وما تبعها بعد أشهر قليلة بمجزرة كركوك؛ دفعت عبدالكريم قاسم شخصيا للاشمئزاز منها والبراءة من أفعال الحزب الشيوعي ووصفهم بالجزارين الذين تفوقوا حتى على هولاكو في تدمير أهل العراق. رغم أنه كان يعتمد عليهم في تدعيم أركان حكمه، لكن أفعالهم وجرائمهم وصلت حدا لا يمكن السكوت عليها أو غض الطرف عنها أو تبريرها.
تهليل حكومة حيدر العبادي والأحزاب الطائفية بالانتصارات، أو تمجيد الحشد الميليشياوي على ما قام به ومازال من خروقات تعمق الخلاف وجذور العداء بين الشعب العراقي، تفضحه مسالخ وحاويات الموت والأرقام المهولة للضحايا التي تفضح بدورها حجم الاستهانة بأرواح المدنيين في حرب عشوائية افتقدت المهنية؛ فيها كل الأسلحة غير مقيدة، لأن خلفها مشروعا لم يعد مقيدا منذ الاحتلال الأميركي للعراق.