علي حسن الفواز
رحلت لميعة عباس عمارة لتترك خلفها ذاكرة ضاجة بحكايا الشعراء المغامرين، إذ كانت مسكونة بالحلم، مثلما هي غامرة بهاجس الثورة، فالقصيدة لديها نصّ يتسع للبوح والاعتراف، وللكشف عن حساسية شعرية مغايرة، إذ تتحول اللغة إلى نصٍ نديّ، شفيف، وإلى فيض وجودي، والأنوثة إلى خطاب، والفكرة إلى رؤيا، والجسد إلى قوة لتجاوز التابو، وهذا ما أعطى قصيدتها حضورا استثنائيا، ليس على مستوى الريادة كما عند السياب ونازك، بل على مستوى وعيها للحرية، ولكتابة القصيدة الذاتية، إذ تشتبك الغنائية بالبوح، مثلما تمنح الإيقاع في سياقه العروضي نوعاً من التدفق الذي تستحضره وكأنه نصٌ للغناء، أو نصٌ له محمولات بيئية جنوبية، تتبدى عبر سيولة الغناء ونبرته الحزينة، فضلا عن المحمولات الرمزية التي تكشف عن العلاقة المضمرة للشاعرة بالمكان واللغة والطقوس والهوية، ولتبدو حسيتها في هذا السياق وكأنها اشهار صياني للذات، ولمواجهة ذاكرة البلاغة القديمة، وانحياز إلى الجدّة، وإلى ما تحمله من نزوع فاضح للروح الشعبي دون حرج من سلطة اللغة، وليكون تمثيلا شجاعا لمجاورة شعرية كسرت معها التابو، إذ تحولت القصيدة إلى فضاء تحتدم فيه اليوميات والتفاصيل الحميمة، تتقرى من خلاله اسئلة الجسد ذاته، والواقع بكل تحولاته العاصفة.عاشت لميعة لحظة عراقية مفارقة، حيث تكشف قصيدتها عن لواعجها وعن متغيراتها، على مستوى المغايرة، أو على مستوى استشراف فكرة الثورة، بوصفها ولادة لعالم جديد، ولمعطيات مسّ بريقها الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي، فكان صوتها صاخبا في الواقع، وفي الجامعة، وكان حضورها يكشف عن فيض الأنثى وهي تستأنف وجودها، عبر وعيها، وعبر فاعليتها في الكتابة الشعرية..وبقدر ماكانت تحمله قصيدة لميعة عباس عمارة تملك عفوية البوح، وحسية اللغة، فإنها كانت تحمل صخبا عميقا، ربما هو صخب الوعي، والسؤال والاحتجاج، إذ ترسم عبر تلك اللغة وجودا متعاليا للأنثى التي تتمرد داخلها، تمردا وجوديا، يمسّ علاقتها بالمكان، وبالآخر، او تمس علاقتها الخفية بالروح المندائية، حيث ذاكرة الماء، وحيث ثنائية القربان والتطهير، وهي اشتغالات قد تبدو مواربة، لكنها تكشف عن شغف متعال بثيمة الجسد وهو يدوّن اعترافاته، وأسفاره وطقوسه.