لنرفض الحرب الطائفية في العراق … بقلم البروفسور كمال مجيد

لنرفض الحرب الطائفية في العراق … بقلم البروفسور كمال مجيد
آخر تحديث:

بعد عشر سنوات من الاحتلال أدرك الشعب العراقي ان الامريكان لم يحتلوا العراق لتحريره او لنشر الديمقراطية في ربوعه، بل لقهره وتفتيته الى فيدراليات وقتل سكانه وتحطيم دولته بغية اضعافه ثم السيطرة على موارده النفطية. ولتحقيق هذه الاهداف فرضوا علينا عملية سياسية اشتركت فيها مجموعة من الاحزاب الانعزالية التي دخلت بغداد على متن دباباتهم. فكل حزب من هذه الاحزاب يتكلم وكأنه يحتكر مصالح فئة معينة ضد غيرها. هكذا تم شق صفوفنا وساد جو من الفوضى الذي انتهى بقتل ابناء الشعب لبعضهم البعض. والمعروف ان هذه الاحزاب لا تمثل سوى القلة الضئيلة من اعداء الشعب، فمن الضروري فضحها وعزلها، بل حتى تثقيف قواعدها لمحاربة كوادرها القيادية التي تسيطر على العملية السياسية.

ومع نشوء ونمو المقاومة ضد الاحتلال اضطر العدو الامريكي على شق صفوف الشعب قومياً عن طريق مساندة الحزبين الكرديين في تقسيم العراق، وطائفياً عن طريق تفريق المسلمين من الشعب الى السنة والشيعة ثم استخدام مرتزقته لاشعال حرب طائفية ادت الى مقتل عشرات الالاف من الابرياء.

والآن دخلت الفوضى الدموية مرحلة الاستقطاب. فهناك قتال بين جبهتين واضحتين، كلتاهما مسلمتان ومرتبطتان بالاستعمار الامريكي واعوانه في العراق والمنطقة. ولكل طرف حججه في استمرار الحرب وهما:

1 – الحكومة العراقية:- المنحازة الى جانب الشيعة ضد السنة وهي مرتبطة بأمريكا بالمعاهدة الاستراتيجية، وجزء من العملية السياسية المنشقة على نفسها. والمعروف انها مكونة من احزاب ووجوه دخلوا العراق مع المحتلين ولم يكن لهم اية تجربة في الحكم. كان معظم هؤلاء من الذين وقفوا ضد البعث وفشلوا وانهزموا من الميدان الى الدول المجاورة ومنها الى اوروبا بصورة خاصة. لم يكن لهؤلاء اية امكانية للتخلص من البعث والسيطرة على الحكم. لقد اعلن قادتهم عن انعدام قدرتهم في مجابهة البعث فاستعانوا بامريكا وبالحركة الكردية التي سبق وارتبطت بامريكا واسرائيل منذ ان حملت سلاح الشاه سنة 1961 ضد حكومة عبدالكريم قاسم وكل الحكومات التي تلتها.

وحين تشكل مجلس الحكم بامر من الحاكم الحقيقي بول بريمر لم تكن لأعضائه اية خبرة في الادارة، بل عملت كل فئة على الاسراع في تنفيذ اهدافها الضيقة، حتى عن طريق تقديم التنازلات الجوهرية للفئات الاخرى. فالحزبان الكرديان اصرا على ان يسطرا دستوراً جديداً ينص على الفيدرالية حتى على حساب سيطرة الطائفة الشيعية على بقية العراق. فبالنسبة لهما فقد الحكم في بغداد اهميته بل ركزا على حصول حكومة اربيل على ما يقرب من الانفصال عن العراق، وهذا ما حدث.

اما الاحزاب الطائفية الشيعية، التي اعلن قادتها ((بيان الشيعة)) حتى قبل الاحتلال، فنجحت في تقسيم العراق دينياً، وليس سياسياً، بالادعاء بأن الشيعة يكونون اكثرية السكان. فركزت على السيطرة على الحكم في بغداد. وبدأت بالانتقام من البعث عن طريق كتابة الدستور بصورة تؤكد نصوصها على ذلك دون الاكتراث بأنها تقتل الالوف وتقطع ارزاق اكثر من مليون من ابناء وبنات الشعب الابرياء، من الذين لم يرتكبوا جرماً بل قبلوا بالبعث لكي يحصلوا على مصدر للعيش.

ثم تدخلت المرجعية الشيعية في النجف في شؤون الحكومة واسرعت في نشر الدعاية المذهبية عن طريق التركيز على الشعائر التي تخص الطائفة الشيعية كاللطم والتطبير ومجالس التعازي. والحت على الحكم حسب النصوص الدينية بل حتى على ان يؤكد الدستور الطريقة الدينية في تنظيم الاحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث. وكأن التأريخ قد توقف عن التطور وما زلنا نعيش في ايام الخليفة علي ابن ابي طالب. وما ان عزز الامريكان سيطرتهم على الحكم بدأوا بحل الجيش وطرد الموظفين وسجن مئات الالوف وكلها بالاعتماد على الدستور وبالمادة الخاصة باجتثاث البعث او بتهمة الارهاب. لقد اتهمت الحكومة معارضيها بمخالفة الدستور ليستحقوا السجن او القتل او الاغتيال. ولحد الآن تلح حكومة المالكي على ضرورة محاسبة الكل بالاعتماد على الدستور الشيعي في الجوهر. كل هذا اقنع اغلبية الشعب على ضرورة الغاء الدستور. لقد تبين خطورة الدستور خاصة حين استغلته حكومة اربيل لاستثناء الحكومة في بغداد من التدخل في شؤونها بصورة كلية ومطلقة.

2 المعارضة السنية:- التي ادركت حرمانها من الحكم بل فقدت وسيلة عيشها في بلد الذهب الاسود. لقد توسعت هذه المعارضة حين شملت الحكومة معظمها بقانون اجتثاث البعث مستخدمة الدستور كسلاح. ثم ان الاكثرية الساحقة من الشعب لم تنل شيئاً من الحكم الجديد سوى الحرية اليورانيومية، حيث انتشرت العاهات الناجمة من استخدام الحليف الامريكي لاسلحة الدمار الشامل. بينما دخلت افواج غفيرة من القاعدة مع منتحريها وانفجاراتها وسياراتها المفخخة للقتل بالجملة في المناطق الشيعية من العراق. ثم تكونت هيئة علماء المسلمين من رجال الدين الذين اسرعوا في الاتصال بالدول السنية المجاورة واعتمدوا بصورة خاصة على حسني مبارك الذي اهداهم محطة تلفزيونية في القاهرة.

ارتفعت سخونة الصراع هذه السنة حين توسعت المظاهرات الجماهيرية التي طالبت بالغاء الدستور الذي استثناهم من الحكم بل من الحياة الآمنة. فاسرعت هيئة علماء المسلمين والحزب الديمقراطي الكردستاني لمسعود البارزاني وحزب الوفاق لأياد علاوي واخوان المسلمين الى تأييد المتظاهرين بينما شارك حزب البعث ورجال الطريقة النقشبندية (السنية) في المظاهرات وحاولا السيطرة على قيادتها.

ثم تكونت قيادة سياسية للمعارضة. وكتب مراسل جريدة الغارديان اللندنية في الرمادي بتأريخ 14/3/2013 تفاصيلها بالاعتماد على تصريحات ممثليها. لقد اكد المراسل على ان (( التكتلات السنية قد وضعت خلافاتها جانباً لتركز على جبهة مشتركة ضد الحكومة في بغداد .. )) و ((بعد اسبوع من نشوب المظاهرات في المدن السنية اجتمع من تبقى من قادة المقاومة السنية واتفقوا على استخدام الزخم المتصاعد في المدن السنية..)) و (( شرح ابو صالح : اننا قررنا ان نوقع على الهدنة مع شيوخ العشائر ومع الكتل الاخرى وحتى مع العناصر المعتدلة من تنظيم القاعدة.)) ويستطرد المراسل: ((لقد ارتفعت سمعة امثال ابي صالح عند السنة بعد مشاركتهم في النزاع السوري.. فتدفقت الاسلحة من القبائل العراقية الى الثوار في حين تبع الرئيس نوري المالكي الشيعي الخط الايراني وساند النظام السوري.))

أكد مراسل الغارديان على قيام ابو صالح بقيادة وحدته (( في مدينة حلب وريفها الشمالي..)) والذي صرح (( اذا سقط النظام السوري تتحرر سوريا ونتحرر ايضا، فلنا صراع مشترك ضد ايران وهزيمتها ستحطم الهلال الشيعي المكون من ايران وسوريا ولبنان.))

لم تبق القيادة السنية تعمل بمفردها فصرح ابو صالح بأنه (( مع قادة السنة الآخرين قد حصلوا على المساندة الوثيقة من الشخصيات الثرية في دول الخليج..)) و أضاف (( بعد الهدنة بين الجماعات السنية حدث اجتماع في العاصمة الأردنية، عمان، لجبهة موحدة من الكتل العراقية مع ممثلي ‘المنظمات الخيرية’ من الخليج. طالب العراقيون بالمال والسلاح لتجنيد المحاربين الجدد، واهم من ذلك للحصول على موافقة المراجع الدينية لجولة جديدة من الجهاد.. وفي الاجتماع الثاني في عمان، بين مرتبة عليا من مسؤولي الطرفين، كان جواب المنظمات الخيرية بالايجاب على شرط ان يكون السنة متحدين ويستخدموا سلاحهم فقط ضد وحدات الحكومة العراقية.)) يضيف المراسل: ((ان قائداً سنياً آخراً اكد للغارديان على حدوث الاجتماعين في عمان.)) وثم (( اخبرني قائد آخر بالقول: هناك خطة جديدة خطة اجمالية تختلف عما حدث سابقاً حين كنا نعمل منفصلين. هذه المرة اننا منظمين ولنا تنسيق مع بلدان مثل قطر والسعودية والاردن. اننا ننظم وندرب ونسلح انفسنا ولكننا سنبدأ بصورة سلمية حتى تصل اللحظة المناسبة. سوف لا نرتكب نفس الاخطاء. هذه المرة ستنهار الحكومة في بغداد.)) وهذا اعلان صريح للحرب الاهلية التي قد تتوسع لتشمل المنطقة، بما في ذلك ايران ودول الخليج بل وحتى امريكا بحجة تنفيذ بنود الاتفاقية الاستراتيجية.

ثم ان الاجتماعات التي جرت في اسطنبول وخاصة الاجتماع الذي حضره وزير بعثي سابق وعضو في هيئة علماء المسلمين ( راجع جريدة الزمان لسعد البزاز في 11/7/2012) و تصريحات اوردوغان ضد الحكومة في بغداد وسفرة اوغلو الى اربيل وكركوك، دون الاهتمام برأي بغداد، كلها تشير الى دور تركيا في التطورات الجارية في العراق.

يدرك نوري المالكي خطورة المظاهرات المستمرة ولهذا انذر باحتمال الحرب الاهلية. ولكن لالحاحه على التمسك بالدستور المنحاز للشيعة انه يراوغ مع المتظاهرين ويعطيهم الوعود الشفوية بتنفيذ مطاليبهم على شرط الاعتماد على الدستور. انه يرفض الاعتراف بأن الدستور يجبر ويحث المتظاهرين على الاستمرار في احتجاجاتهم المتنامية.

هذه الحقائق تشير الى استمرار الفوضى في العراق والى أن المظاهرات قد تتحول تدريجياً الى اصطدام مسلح واسع بمساندة حلفاء امريكا في المنطقة. ان محنة العراق في السنوات العشرة السابقة برهنت على اضرار الحكم الطائفي وفشل القتال بين المسلمين في انقاذ العراق من مصائب الاحتلال.

اذن هناك الآن ضرورة ماسة لايقاف الاحزاب والهيأت الاسلامية عند حدها ومنعها من الاستمرار في نشر التفرقة بين ابناء الشعب الواحد. في مثل هذه الايام الحرجة على الشعب العراقي ان يدرك خطورة الوضع ويوحد نفسه للوقوف امام الطرفين الطائفيين المتنازعين ويبادرالمخلصون منهم بتوحيد العراقيين وقيادتهم ضد شرور الطائفية المعادية للاغلبية الصامتة.

وهنا تقع المسؤولية على المثقفين والحكماء المدنيين المعروفين بنبذ الصراع الطائفي. عليهم ان يعملوا لا للم شمل المنكوبين بالطائفية وتثقيفهم فحسب، بل القيام بعمل ايجابي عن طريق تشكيل لجنة من المدركين داخل العراق لقيادة الجماهير المتضررة. وكخطوة اولى هناك الضرورة لاصدار بيان ايجابي وبنّاء لتعبئة اغلبية الجماهير ضد الحرب الطائفية وايقافها عند حدها. والدعوة الى تنفيذ المطالب الشرعية للمتظاهرين وعلى رأسها الغاء الدستور والغاء القوانين المستندة عليه كقانون المساءلة والعدالة وقانون الارهاب واطلاق سراح الموقوفين والغاء السجون شبه السرية ومحاكمة المتهمين باحداث الانفجارات التي قتلت الالوف من ابناء الشعب الابرياء في المناطق الشيعية والسنية والمسيحية. ثم العمل على الغاء حكومة المحاصصة التي تخلق الخلافات بين الاطراف المتخاصمة, والعمل على منع المنحازين من السنة والشيعة، وهم معروفون، من السيطرة على الحكم تحت القاب ومسميات جديدة.

للشعب العراقي تأريخ طويل في محاربة الفوضى والمطالبة بحياة حرة يسودها السلام بين الطوائف والاديان والقوميات وفي محاربة الاحتلال الذي فرق الشعب. وهناك كنز من المثقفين المتمدنين الذين دخلوا السجون دفاعاً عن الشعب. ولكن استمروا عبر العقود يهذبون ويثقفون الشعب ويعملون على تطوير المجتمع الى الامام وانتشاله من الجمود العقائدي. الشعب يتوقعهم ان ينهظوا من جديد ويقوموا بدورهم.

واذا الشعب يوماً اراد الحياة فلابد ان يستجيب القدر

 

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *