بين غروب الشمس وطلوعها، ساعات تطول هنا وتقصر هناك، ومن المؤكد أن الطول والقصر ليسا في عقارب الساعة، بل هما وليدتا مشاعرنا وأحاسيسنا إزاء مايحيطنا من ظروف، وهما نسبيان تبعا للمتغيرات، وفي هذا قال شاعر:
إن الليالي للأنام مناهل
تطوى وتنشر بيها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة
وقصارهن مع السرور قصار
وقد شكا المسكين امرئ القيس من طول الليل أيضا، فكانت له اليد الطولى في صندوق الشكاوى حين أنشد:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيالك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
وفي حقيقة الأمر أن الليل هو الليل في أحواله كلها، وعقارب ساعاته كما أسلفت هي ذاتها، غير أن المتغير في الأمر هو الصحبة والرفقة فيه، والأنيس والمنادم، فضلا عن الوساوس والأفكار، والمخاوف والظنون. فمن اصطحب النجم له الكأس المعلى والحظوة الكبرى، ذلك أنها ملازمة لليل لاتبرحه، ومن اصطحب الشهب والنيازك فنصيبه التحرق وألم الغياب العاجل، لأن طلوعها يغب بين فينة تطول وأخرى تقصر، وفي الحالين لاتدوم أطول من لمح البصر.
أما القمر، فلصحبته كلام مغاير لما سبق تماما، فهو مرغوب محبوب مطلوب في أطواره كلها، ولنا في قول الشاعر أسوة رائعة حين قال:
يا ليل طل أو لاتطل
فسيان عندي أن أسهرك
لو بات عندي قمري
ما بت أرعى قمرك
ولعل شاعر الدارمي أجاد في بوحه حين جارى شاعر القريض يوم أنشد:
شمالك طلت ياليل ونجومك تلص
من چنت ويه هواي چلمة وتخلص
ونبقى في الليل خليل الساهرين، ولنعرّج على شاعر أرّقه الليل حتى أحرقت مدامعه خديه، فراح يصف لنا وقع الليل على جوانحه وجوارحه فقال:
هو الليل يغريه الأسى فيطول
ويرخي وما غير الهموم سدول
أبيت فيه لا الغاربات طوالع
علي ولا للطالعات أفول
وينشر فيه الصمت لبدا مضاعفا
فتطويه مني رنة وعويل
ولي فيه دمع يلدغ الخد حره
وحزن كما امتد الظلام طويل
وهكذا، ينقضي الليل وتنقضي ساعاته، ويتوهم السهران أن الظلام قد انقشع، وحل محله الضياء الأول من شمس يوم جديد، فإذا بيومه الجديد يعلن أن لا تبدل في الحال ولا تغير في المآل، وكأن ما فات من أمر هو ذاته ما آن من أوان، فتتجدد أوهام بتبدد سابقات، ويصح لسان منشدة الدارمي:
متحزمة بحزامين كل لطمي ويلي
أطبگ نهاري وياه من يگضي ليلي
بهذه الدوامة يقضي العراقيون ليلهم، متأملين نهارا يحمل خبرا مفرحا، أو بشرى سارة، أو نبأ يزيح عنهم متاعب ماتراكم من هموم، إلا أن الأخيرة تقف لهم بالمرصاد ببركة ساستهم وحكامهم، والذين لم يتوانوا عن قض مضاجع جماهيرهم، وما تعدد الدورات بين أولى وثانية وثالثة ورابعة، من مجالس الدولة الرئاسية والبرلمانية والوزارية، إلا أضحوكة كبرى وألعوبة يشترك فيها الجميع، لوضع العراق على سكة طريق أقل وصف بحقه هو (درب الصد مارد) فسلام على العراق وعلى أهل العراق، سلام وداع وحسرة، على مجد تولى، وعيش تقضى، ونعمة زالت، ليس لها من إياب، وسواء أجاء زيد أم ذهب عمر في سدة الحكم! فإن النتائج والمعطيات تسير بخط بياني، يزداد نكوصا وانحناءً بما ينذر بعاقبة وخيمة و (الله الستار).