أذينان وبطينان، أربعة تجاويف لاتتجاوز بالحجم قبضة كف، غير أن لها سطوة على سائر أعضائنا، لذا فقد امتلكت الصدارة والعليّة على الجسد برمته، وقد اتخذت مسمى القلب تبعا لهذا.
ومن المفردات المرادفة للقلب في لغتنا العربية؛ الجَنان، الروع، البال، الفؤاد، الصميم، المقتل، التامور، الجزانة، الخلد، الاصمع. وقد حبا خالقنا هذا العضو بمزايا انفرد بها عن باقي أعضاء الجسد، حتى غدت المشاعر والأحاسيس تتبلور به، وأمسى يحمل معنى أكثر من كونه مضخة تؤدي وظيفتها بحركات ديناميكية.
وقطعا، لم يفت بني آدم هذا الجانب من الخصوصية، فراح سليم النيات منهم يولي هذا العضو اهتماما سليما طيبا، فأتت النتائج طيبة أيضا، وفاح ذاك القلب مودة ومحبة وطيبا وخيرا وافرا. فيما ذهب سيئ النيات الى اقتناص الثغرات ونقاط الضعف في هذا العضو بغية إيقافه، فكان بفعله هذا “كأنما قتل الناس جميعا”. وقد قيل عن أهمية إيلاء مشاعر الآخرين كثير من الأقوال والأشعار والأمثال، منها:
واحرص على حفظ القلوب من الأذى
فرجوعها بعد التنافر يصعب
إن القلوب إذا تنافر ودها
مثل الزجاجة كسرها لايشعب
ففي القلب إذن، يكمن كثير من المفاهيم، ندرك نحن بني آدم بعضها، وعلم بعضها الآخر عند علام الغيوب.
٤٣٧٬٠٧٢ كم2 هي مساحة العراق.. يشكو كل متر فيها من داء عضال انتشر كالنار في الهشيم، وتسبب في نكوص مؤشرات التقدم والتطور في مفاصل البلد كافة، بل نخر جذع الدولة من الداخل حتى كاد الخارج منه يتداعى من شدة الوهن، ومن المؤكد سيكون تداعيه -لاسمح الله- على رؤوسنا جميعا، كما يقول المثل: “الحايط لو مال يميل على أهله”. ولقد أضحى ذاك الداء العدو رقم 1، والهم الأول والشاغل الأكبر لقلوب العراقيين -وها عدنا للقلب ثانية- ذاك هو داء الفساد، بأنواعه وأشكاله وأماكن اشتغاله غير المحدودة، وفي حقيقة الأمر أن هذا الداء العضال متوارث من سياسات النظام السابق الهوجاء، ولسوء حظ العراقيين فإن أغلب الوارثين فتحوا أحضانهم لهذا الإرث، فتنامى وتناسل حتى بلغ شِغاف القلب ونياطه -وهاقد عدنا للقلب ثالثة-.
وكما أن لكل داء دواءً، ولكل جناية عقاب، ومقابل كل جنحة حساب، فإن مهمة القائمين على أمر البلاد، والذين بيدهم دفة القيادة ومقود الحكم، تفعيل دور الدواء والعقاب والحساب، بما تقتضيه مصلحة البلد ومستقبله، وفق القوانين السماوية والوضعية التي تنص بكل صراحة ووضوح على الردع بقوة وحزم، وصرامة وحدة، وحيادية وشفافية، لمثل هذه الأفعال، وقد قضت كل الأحكام المدنية والعسكرية، في قوانين العراق الجديد و “العتيگ” على حد سواء، بمحاسبة الفاسدين والمفسدين، ووضعهم تحت طائلة القانون من دونما تمييز او تفضيل بين “زيد وعبيد” والأمثلة على زيد كثيرة وعلى عبيد أكثر، ومن المؤسف أن الإثنين لا يأبهان بمكانة العراقيين، ولايعيران أهمية -بحدودها الدنيا- لمشاعرهم وقلوبهم -هاقد عدنا للقلب رابعة-.
ومن المؤلم ان العقاب والحساب بحق مرتكبي جرائم الفساد في عراقنا الجديد، ينأيان كل النأي عن الـ (صماخات) والرؤوس الكبار في الدولة، إذ يبلغ المسؤول الكبير ماشاء له بلوغه من فساد إداري أو مالي، من دونما مخافة من عقاب، وإن كان هناك عقاب فهو الضرب “دون الحزام” أي بالمحافظة على القلب -وهاقد عدنا للقلب خامسة-. بل الأدهى أن بعضهم يمارس هوايته في السرقات تحت أغطية كثيرة، منها غطاء الحصانة والمنصب والمحسوبية والمنسوبية، وقبل هذي وتلك وذاك، غطاء الدين الفضفاض، والذي بإمكان من يريد استغلاله تغطية سيئات بحجم البحر الأبيض المتوسط، فيكون الحامي له والمشرع لأفعاله والمحلل للسحت الذي يأكله.
وبين هذا المفسد وذاك السارق يضيع المال العام والخاص، وتفرغ خزينة الوالي، ويتناوب على المواطن السارقون السابقون واللاحقون، فيتغدون به ويتعشون ويفطرون ويتسحرون، وليس له إلا صبر مابعده ظفر، وسط تماهل أصحاب الحل وتواطؤ أهل العقد من اللجان الرقابية ومفتشي الوزارات والمؤسسات، ويبقى المواطن المسالم ماسكا قلبه وهو أضعف الإيمان.. مذكرا ماسكي زمام أمور البلد بمفردة مرادفة للقلب هي (الدلال) فينشد على مضض: