ليس هناك من كان يعتقد بوجود إمكانية فعلية لإجراء تغيير جذري في أوضاع العراق الراهنة دفعة واحدة، رغم حقيقة كون النظام السياسي الطائفي والمحاصصي قد فقد قدرته على البقاء والمواصلة في الحكم من الناحية الموضوعية، بسبب فساد وخداع وعجز النخب الإسلامية السياسية الحاكمة على تقديم ما يمكن أن يمنحهم الشعب تأييده، رغم بروز رغبة عارمة لدى المزيد من الأوساط الشعبية الراغبة في التغيير. والمشكلة لا تزال تكمن في الجانب الذاتي، أي في جانب القوى الراغبة في التغيير والساعية إليه. فما هي تلك العوامل الكامنة وراء ما حصل في العراق خلال الفترة الأخيرة والتي أدت إلى تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، حكومة اللاتغيير؟
يمكن، كما أرى، تلخيص العوامل الفاعلة في الواقع العراقي الراهن في النقاط التالية:
الدلائل المتوفرة تشير إلى أن ميزان القوى السياسية والاجتماعية لا يزال يميل لصالح القوى الرافضة للتغيير، ولكنها ترى إمكانية إجراء تغيير شكلي وجزئي في بعض القوى والأفراد من النخب الحاكمة، في حين لا تزال القوى الراغبة والعاملة من أجل التغيير تعاني من نقاط ضعف غير قليلة تستوجب تجاوزها لتحقيق التغيير المنشود في ميزان القوى لصالحها. وهذا الاختلال في ميزان القوى لصالح القوى التي حكمت العراق خلال الأعوام الـ 15 المنصرمة ناشئ عن الواقع التالي:
رغم مرور فترة طويلة لا يزال الوعي الاجتماعي والسياسي لنسبة عالية جداً من بنات وأبناء المجتمع العراقي ضعيفاً وإلى حد كبير مزيفاً ومشوهاً، وهي نتيجة منطقية لما يقرب من ستة عقود من حكم الدكتاتورية والعنف والحروب والفقر والتجهيل وتزييف وعي الفرد والمجتمع.
هيمنة قوى الإسلام السياسي، ولاسيما الشيعية منها، على الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث، منذ إسقاط دكتاتورية البعث حتى الآن، التي جعلت منها دولة هشة وهامشية، إضافة إلى وجود دولة عميقة فاعلة فيها (دولة داخل دولة). فهذه القوى تمتلك الحكم والمال والقوات المسلحة والتأييد الديني، إضافة إلى وجود ودور الميليشيات الطائفية المسلحة والإرهابية المنتشرة في أنحاء البلاد والتابعة للأحزاب أو لقوى ودول أجنبية، وهي التي أشرفت على الانتخابات ومارست كل أساليب التزوير والتزييف والرشوة لإبقاء الهيمنة الطائفية والمحاصصة على مجلس النواب والحكم.
الدور الفاعل والمساند بالأساس وبقوة معلنة من جانب المرجعية الدينية الشيعية للأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الشيعية وللحكم السياسي الطائفي المحاصصي القائم، مع نقد لا بد منه موجه لمجموعة من الفاسدين المفضوحين من النخب الحاكمة والتي لم يعد الدفاع عنها ممكناً وللحفاظ على النظام وحمايته من الانهيار أساساً.
الضعف الذي لا تزال تعاني منه الأحزاب والقوى الديمقراطية والتقدمية الراغبة في التغيير، إذ إنها تعاني من:
ضعف كل منها على انفراد وقلة تأثيرها على أوساط الشعب الواسعة، ولاسيما الكادحة والفقيرة التي تعاني من طبيعة وسياسات النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد، رغم التحسن النسبي الملموس في قاعدتها الاجتماعية ونشاطها وتأثيرها خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
ضعف تعاونها وتضامنها والتنسيق الضروري فيما بينها وتكاثر تكتلاتها غير المنتج والمؤثر سلباً على دورها ونشاطها وتأثيرها.
ومع التحسن النسبي في دور القوى اليسارية العراقية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي، إلا إنها جميعاً لم تعثر حتى الآن على لغة مشتركة فيما بينها تسمح لها بالتعاون والتنسيق والتأثير الإيجابي على مجمل المجتمع العراقي ولاسيما الفئات الكادحة والفقيرة والمضطهدة.
ورغم الضعف الذي تعاني منه القوى الديمقراطية العراقية، فإنها استطاعت أن تقود حركة مدنية شعبية تميزت بالحيوية والفاعلية ورفعت الشعارات السليمة وواصلت الحراك المدني المطالب بالتغيير لثلاث سنوات متواصلة، عبأت الكثير من الناس حولها. وهي جديرة بمواصلة ذلك.
ومنذ أن تسلمت قوى الإسلام السياسي الطائفية الحكم في البلاد تحول الفساد إلى نظام (سيستم) قائم بحد ذاته وسائد ومتشابك بين قوى الفساد في الداخل والخارج، حيث تلعب القوى السياسية ذات النهج المافيوي التابعة للأحزاب أو البيوتات الدينية المعروفة، دورها في كل ذلك، والذي يسمح بهيمنة هؤلاء الفاسدين على الكثير من القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
والدلائل كلها تشير إلى واقع وجود علاقة تشابكية متينة ومخلة باستقلال العراق وسيادته الوطنية وبقراراته الداخلية والدولية بين أغلب قوى الإسلام السياسي الحاكمة، الشيعية منها والسنية، وبين الدول المجاورة للعراق على أساس ديني ومذهبي. ولكن هذه العلاقة تجسد بالأساس مصالح ذاتية للقوى الأجنبية مخلة ومضرة بمصالح العراق والمجتمع العراقي. ورغم المشكلات المتفاقمة التي تعاني منها دول الجوار، إيران والسعودية وتركيا وقطر والإمارات العربية، والتي يمكن ان تضعف بهذا القدر أو ذاك دورها وتأثيرها في العراق، إلا إنها لا تزال تمتلك اوراقاً مهمة بيديها، قادرة على التأثير الفعلي في مجرى أحداث العراق، ولاسيما إيران، التي تعاني من مشكلات متفاقمة داخلية وإقليمية ودولية، سياسية واقتصادية واجتماعية، وكذلك السعودية بعد اغتيال جمال القاشقجي وجرائم الحرب التي ترتكبها في اليمن. وتلعب الدول الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، دورها المؤثر سلباً على أوضاع العراق، واستعدادها، رغم عدائها الصارخ لإيران، على المساومة مع إيران على حساب الشعب العراقي.
ما هو الجديد في أعقاب الانتخابات وبدء تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة عادل عبد المهدي؟
العوامل الذكورة في أعلاه وغيرها لعبت دورها في نتائج الانتخابات العامة الأخيرة وفي بروز حل هجين، “لا يطير ولا ينكض باليد”، أو بين مدينتي “نعم ولا” على حد قول الشاعر الروسي الفقيد أفتوشنكو. فعادل عبد المهدي ليس بالشخصية المستقلة، بل هو جزء من قوى الإسلام السياسي، وكان عضواً قيادياً في المجلس الإسلامي الأعلى والمرتبط بعلاقات قوية مع عمار الحكيم ويصعب عليه الفكاك من تأثير ودور المرجعية الشيعية، كما كان وزيراً لأكثر من وزارة في الحكومات السابقة، وكان نائباً لرئيس الجمهورية ممثلاً عن قوى الإسلام السياسي، كما يصعب عليه حقاً التصدي الفعلي الحازم لنهج إيران في التدخل المباشر والفظ والمستمر في الشؤون العراقية. فالحكومة الجديدة التي تم تشكيل أجزاء منها أخيراً، لم تبتعد عن المحاصصة الطائفية من حيث الجوهر، رغم الضجة الإعلامية التي تثيرها قوى إسلامية سياسية بعينها تدعي الطلاق مع المحاصصة الطائفية. فهل من جديد حاليا وحقاً في كل ذلك؟ يمكن تلمس أربع نقاط مهمة تعبر عما اشرت إليه في إبعاد نسبي لبعض القوى والأشخاص المحروقة أوراقهم عن الحكم المباشر:
اعتراف الجميع، ومنهم قوى الإسلام السياسي، بفشل النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المقيتة والمذلة للشعب، رغم إصرارهم على استمرار العمل به عملياً، واعتراف بعضهم بارتكابهم أخطاء فادحة لا غير، في حين إن ما حصل في العراق لم يكن مجرد أخطاء منهم، بل جرائم بشعة يندى لها جبين الإنسان.
إبعاد حزب الدعوة عن المشاركة المباشرة في الحكومة الجديدة، رغم الوجود الكثيف والمهيمن لهذا الحزب على أجهزة السلطة التنفيذية وله قوى مؤيدة ومؤثرة في المجلس النيابي، وكذلك في السلطة القضائية. فهذا الحزب وقادته البارزين هم الأكثر مسؤولية بين جميع قوى الإسلام السياسي العراقي عن كل ما حصل في العراق خلال الأعوام المنصرمة منذ إسقاط الدكتاتورية الشوفينية وإقامة الاستبداد الديني والمذهبي في الحكم وتشديد الصراع الطائفي والديني في البلاد، إضافة إلى اجتياح داعش واستباحته لجزء كبير من بنات وأبناء الشعب في محافظة نينوى ومحافظات غرب العراق.
وجود خطوط عامة جيدة لبرنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي مطروح، والعبرة في التنفيذ بالأساس، وهو في حكم المستقبل أو الغيب. وليس هناك ما يؤكد على تحقيقه إذا ما استمرت هذه القوى تهيمن على أجهزة الدولة بسلطاتها الثلاث وتلك المسؤولة عن تنفيذ البرنامج.
وجود بعض الأسماء التي يعتقد أنها مستقلة في التشكيلة الوزارية الجديدة، إلا إن الأيام سوف تكشف عن مدى علاقتهم بقوى الإسلام السياسي الشيعية أو السنية، ومدى استقلاليتهم فعلاً.
ويبدو لي إن هذه النقاط هي التي سمحت للرفيق رائد فهمي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ان يصرح: بـ “أن جلسة التصويت على الثقة بالحكومة الجديدة حقق خطوة نحو تجاوز نهج المحاصصة، ونجح في اخراج الحكومة جزئيا من هذا النهج”. (رائد فهمي: عملية تشكيل الحكومة سجلت الخروج جزئيا من نهج المحاصصة ، موقع الحزب الشيوعي العراقي، 27/10/2018). وهي مسألة قابلة للنقاش.
ما هي الجوانب السلبية في الوضع العراقي الراهن:
إن شخصية رئيس الوزراء الجديد ليست مستقلة، بل هي في القلب من قوى الإسلام السياسي الطائفية، وكان عادل عبد المهدي عضواً في حزب سياسي طائفي مؤيد لإيران ومتحالف معها، ويتبع في مواقفه ما تأمر به المرجعية الشيعية.
وجود قوى من قائمة البناء، والتي هي بالأساس فتح، ورئيسها هادي العامري، مسؤول ميلشيا منظمة بدر الطائفية المسلحة خارج القانون، المشاركة في الحكم، وهي الحليف الأقوى والتابع لإيران مباشرة. وهذا التشخيص ليس ادعاء مني على هادي العامري، بل كان تصريحا منه أكد فيه أنه يقلد علي خامنئي، وبالتالي ينفذ ما يطلب منه مرشد الثورة الإسلامية في إيران، وهو الذي قام بتقبيل يد سيده الخامنئي. وهو أمر بالغ الخطورة، والشعب العراقي يعرف تماماً هذا الأمر وماذا يعني ذلك.
إن الادعاء بتجاوز المحاصصة الطائفية، كما تتحدث عنه قوى الإسلام السياسي، كذبة لا يجوز القبول بها أو ترويجها، بل هو التفاف على طلب التغيير لا غير، رغم الملاحظات الإيجابية التي أشرنا إليها.
وإذ تخلت قائمة سائرون عن حصتها في الحقائب الوزارية، وهي في الغالب الأعم حصة قوى مقتدى الصدر، الأكثر قاعدة ونفوذا وتأثيراً في “سائرون”، وهي قوى إسلامية سياسية طرحت برنامجاً مهماً وجد تعبير بعض مهماته في منهاج الحكومة الجديدة، فأن الأحزاب الكردية والأحزاب السنية والجماعات الشيعية الأخرى لم تتخل عن ذلك، وبالتالي، فأن هذا الجزء قد تخلى عن حصته، وربما سيجد تمثيله بترشيحات لشخصيات قريبة من “سائرون” لعدد من الحقائب الوزارية غير المحسومة حتى الآن، وهي ثماني وزارات مهمة، بما فيها وزارة الثقافة، التي احتجت نقابة الفنانين بحق وصواب على اسم الشخص الذي كان ضمن قائمة حكومة عادل عبد المهدي، إذ رفض البرلمان ممارسة التصويت بشأنه وبشأن وزارات أخرى.
من هنا أرى بأن مطلب التغيير للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته سيبقى قائماً ولا بد من النضال من أجل تحقيقه من خلال تنشيط الحركة المدنية الشعبية وتعزيز دور ونضال وتأثير وتعاون القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية وتعبئة المجتمع لهذا الغرض وممارسة الضغط لمحاربة الفساد والفاسدين وتقديمهم للمحاكمة، وحل التنظيمات المسلحة ومنع اقتناء وبقاء السلاح خارج القانون والسلطة التنفيذية، وحل الشد الشعبي المكون بالأساس من ميليشيات طائفية قائمة، وتنفيذ برنامج اقتصادي-اجتماعي-بيئي يؤمن عملية تنمية قادرة على تحقيق التغيير البنيوي في الاقتصاد العراقي وخطوة مهمة على طريق إزالة الطابع الريعي للاقتصاد العراقي بتنمية قطاعي الصناعة والزراعة عبر قطاعات الدولة والخاص والمختلط وتوفير عاجل للخدمات الأساسية وحل مشكلة الكهرباء والماء والسكن والنقل والعمل للعاطلين، إضافة إلى تأمين الخدمات الصحية والضمان الصحي …الخ.
إن الأيام والأشهر القادمة ستظهر مدى قدرة الحكومة الجديدة على تنفيذ البرنامج التي وعدت بطرحه. ولكن يفترض ألَّا يُترك هذا الأمر لإرادة الحكومة وعملها، بل لا بد من النضال من أجل مصالح الشعب والوطن وإنقاذ البلاد من الطائفية السياسية ومحاصصاتها المذلة ومن تأثير القوى الأجنبية في الشأن العراقي.