المجتمع العراقي يقف اليوم أمام محنة كبرى جديدة، إنها محنة الشعب العراقي بـ “الحشد الشعبي” وقادته، والقوى الداخلية والخارجية التي تقف وراءه! ليس هناك في المجتمع العراقي من لا يعرف طبيعة هذا الحشد وكيف تكَّون ومن المسؤول عن تكوينه! وكيف استغلت فتوى السيد علي السيستاني الخاصة بالجهاد الكفائي ليعلن عن تكون هذا الحشد من المليشيات الطائفية المسلحة ولينخرط فيه المتطوعون المخلصون استجابة لفتوى السيستاني. فقوام أو بنية وقيادة هذا الحشد جاءت من المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة وقادة هذه المليشيات، وتشكيلها تم بقرار من علي خامنئي وعبر قاسم سليماني وبالتنسيق مع نوري المالكي، الذي أعلن شخصياً بأنه المُكون الفعلي لهذا الحشد!! فقد جاء في مقابلة صحفية بين موقع إيلاف ونوري المالكي، سأل الصحفي: هل أنت قائد الحشد الشعبي؟ فأجاب المالكي بما يلي: ” انا لست القائد الميداني للحشد الشعبي، لكن إذا قلت من أسس الحشد الشعبي، فأقول نعم أنا من اسس الحشد الشعبي، وفكرتي عن تأسيس الحشد الشعبي موجودة منذ 2012، وخاصة في نهاية 2012…”. (موقع إيلاف، شيرزاد شيخاني، المالكي لـ «إيلاف»: أنا من أسس الحشد الشعبي في العراق، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2016).
الحشد الشعبي موزع حتى الآن على قطاعين: القطاع الأول وجمهرة من قادته ساهموا في معارك الموصل وبينهم خيرة المتطوعين استجابة لفتوى الجهاد الكفائي واستشهد منهم الكثير. والقطاع الثاني هو من بقي في مدن المحافظات العراقية وساهموا بقسط كبير جداً في الهيمنة على السكان وابتزازهم ومحاربة من يخالف رأيهم والمشاركة في التجاوز على أملاك وأموال الكثير من الناس، وهم مسؤولون عن الاختطاف والتعذيب وغير ذلك.
والآن انتهت معركة الموصل والجيش العراقي بقيادته الراهنة قادر على تطهير العراق من رجس الدواعش وبقايا القاعدة ومن لف لفهم، وانتهى دور الحشد الشعبي. ولم تعد هناك أي ضرورة لبقاء الحشد الشعبي أو بقاء مسلحين خارج القانون، ولا بد من اتخاذ قرار سريع بحل هذا الحشد وفرض تسليم أسلحته للقوات المسلحة العراقية، قبل أن تصبح كارثة جديدة تذكرنا بالأعوام السالفة. هذا ما ينبغي ان يكون عليه القرار الحكيم، إذ انتهى مفعول الفتوى وتحررت الموصل من هيمنة العصابات المجرمة، التي تسبب بها قادة المليشيات الشيعية المسلحة المتطرفة بسياسات أحزابهم وتصرفات القوى الطائفية المقيتة. فهل سيوافق قادة الحشد الشعبي، وهل سيخضعون لقرار لا بد أن يصدر عن رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة بحل الحشد الشعبي وتسليم أسلحته كافة، ام سيرفضون ذلك ويتحدون الدولة بأسرها؟ نحن أمام موقفين هما:
أولاً، موقف رئيس الوزراء العراقي من اتخاذ القرار المطلوب، وثانياً، موقف قادة الحشد الشعبي من حل حشدهم!
لا نعرف الموقف الذي سيتخذه رئيس الوزراء بهذا الصدد، فهو قد عود العراق منذ مجيئه للسلطة، عدا التعبئة لتحرير الموصل، أنه لم يتخذ أي قرار بشأن الجماعات التي أوصلت العراق إلى هذا المستنقع الضحل والنتن، كما لم يتخذ أي قرار صائب ضد تلك الشخصيات التي نهبت العراق وداست على كرامة الشعب وسلمت الموصل سهل نينوى ومحافظات أخرى إلى عصابات داعش المجرمة؟ بل هم ما زالوا في قيادة الدولة وفي مجلس النواب وفي كل مكان. ولهذا لا ندري هل سيجرأ على اتخاذ مثل هذا الموقف ويتحدى غريمه نوري المالكي ورئيس حزبه وقائمته! واجبه الرسمي يتطلب منه حماية العراق من الفوضى والصراع السياسي والاجتماعي والعسكري ويحتم عليه اتخاذ الموقف الصحيح، حل الحشد الشعبي كله ومنع وجود سلاح خارج الجيش والشرطة العراقية. إنه أمام قرار صعب، ولكن لا يجوز تجاوزه أو تأخير اتخاذه، ومن يتأخر يعاقبه التاريخ دون أدنى ريب!!
أما موقف قادة الحشد الشعبي فقد برز في عدة تصريحات في الآونة الأخيرة ابتداءً من قاسم سليماني وبعض المسؤولين الإيرانيين ومروراً بالمالكي وأبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي .. وانتهاءً ببقية المجموعة القيادية في هذا الحشد! فلنأخذ بعض هذه التصريحات وما تعنيه بالنسبة لأوضاع العراق الراهنة:
جاء في تصريح اللواء قاسم سليماني وقائد فيلق القدس الإيراني والقائد الفعلي للحشد الشعبي ما يلي:
قال قائد فيلق القدس للحرس الثوري الإيراني، اللواء قاسم سليماني، إن الحشد الشعبي حوّل الجيش العراقي إلى “جيش حزب اللهي” على حد قوله، مضيفا أن الانتصار على داعش في معارك الموصل سبب “تدخل العلماء وتشكيل الحشد الشعبي”. كما نقلت وكالة “تسنيم” الإيرانية شبه الرسمية عن سليماني إشادته في كلمة له أمام طلاب “جامعة الإمام الحسين للعلوم العسكرية” بما وصفه بـ”الانتصار الأخير في الموصل” معتبرا أن “تدخل العلماء وتشكيل الحشد الشعبي، منحا الشعب العراقي قوة إيمانية وعقائدية وجعله يقف من خلال هذه القوة بوجه تنظيم داعش الإرهابي.” أنظر: CNN بالعربية، بتاريخ 19/07/2017. وفي تصريح آخر للجنرال الإيراني، محمد على فلكي، قائد فيلق “سيد الشهداء” فى اغسطس العام الماضي 2016، والتي قال فيها إن مليشيات الحشد، ستكون نواة لـ”الجيش الشيعي بالعراق.
أما قيس الخزعلي، رئيس ميليشيا “عصائب أهل الحق” فقد قال في تصرح له ما يلي: تحرير الموصل “هو تمهيد لدولة العدل الإلهي”. وزعم أن تحرير المدينة “انتقام وثأر لقتلة الحسين لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد”. وفي هذا يتفق مع ادعاء المالكي بمدنية كربلاء. وأضاف في تصريح آخر قوله: “أنه بظهور من وصفه بصاحب الزمان، وهو الإمام الثاني عشر الغائب عند الشيعة، فإن قواتهم ستكون قد اكتملت بالحرس الثوري في إيران وحزب الله اللبناني وأنصار الله (جماعة الحوثي) في اليمن وعصائب أهل الحق وإخوانهم في سوريا والعراق، وفق تعبيره.” وفي ورقة بخط يده كتب ما يلي: باسم رب الشهداء، إلى كل الشرفاء…، إلى كل الطلقاء… حشدنا قائم حتى ظهور القائم، التوقيع الجندي قيس الخزعلي. بتاريخ 26 تشرين الثاني 2016.” (موقع NRT (. وبهذا الصدد يمكن أيراد مئات التصريحات لقادة الحشد الشعبي والأحزاب الإسلامية السياسية التي تصب بذات الاتجاه.
إن وجود الحشد الشعبي كقوة مسلحة شيعية، سواء بشكل مستقل أم كجزء من القوات المسلحة العراقية، سيقود إلى عواقب وخيمة في بلد متعدد القوميات والديانات والمذاهب، وفي بلد عانى وما يزال يعاني من الصراع الطائفي وتعرض أتباع ديانات أخرى للاضطهاد والملاحقة والتشريد والقتل على الهوية والإبادة الجماعية.
إن الموقف السليم هو إنهاء وجود الحشد الشعبي بحله وتسليم كامل أسلحته للدولة العراقية وإنهاء الوجود الإيراني بالعراق، ولاسيما فيلق القدس والأجهزة الأمنية الإيرانية، لأنها ستكون العنصر الفاعل والمؤذي للتطور المستقل للعراق. إن تقديم الشكر لمن قاتل لصالح تحرير الموصل والوقوف بإجلال أمام الشهداء الذي سقطوا في معارك تحرير الموصل واجب وطني لا شك فيه، ولكن انتهاء مهمة هذا الحشد يفترض أن تعني حله دون تأخير لمصلحة العراق وشعبه بكل قومياته واتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية والفلسفية. إنها المحنة التي يفترض أن تنتهي قبل أن تتفاقم!