ما قبل الاستهلال

ما قبل الاستهلال
آخر تحديث:

ياسين النصير

كلّ شيء يكون لا بدّ من أن يستقر في موضعة المابين، كي يتواصل مع بداياته ويتصل بما سيكون عليه، فالظرفية المابينية جدليّة.قبل أن نبدأ بالكتابة، ثمة بداية ما قبلها، لأنّ الكتابة تأتي بعد أن تكون تلك البداية قد نضجت وتفككت كي تصبح مهيّأة لكتابة الجملة الاستهلال، حقيقة ليس ما يسبق الاستهلال فعلا عشوائيا، إنّما هو مجموعة من الفعاليات المدركة والذهنية تؤسس شيئا، شيء تشكّل منذ زمن بعيد، غير معروف في  أدمغتنا، كنوى بانتظار من يلقحها كي تبدأ حياتها الجنينيّة. هذه العوالم المجهولة السابقة على الاستهلال، فيها ما يمكنه أن ينضج، ويثمر، وفيها ما يموت ويتلاشى، فنحن أبناء الزمان والمكان المتحركين. كل شيء ما قبل الاستهلال مبهم، غامض، غير معروف، منسي، مسكوت عنه، غائب في البئر الزمني. ولكنّه لن يبقى هكذا دون حركة ما، إما أن تنضجه الحركة الذاتية له، أو الحركة الموضعية، ليخرج من قمقم الزمان، على هيئة حملة او كلمة أو علامة، وإما أن يذوب ويتفتت.والفكرة الفلسفية لهذا العدم الممتلئ بالفراغ، أن فيه ما يمكنه أن يكون، وفيه ما لايمكنه التكوين. فالكينونة الأحادية للفكرة لا تشكل هوية مكتملة، إنما هوية الشيء هي سيرورته من كينونات جزئية ومتناقضة، فالتناقض جزءٌ من بنية أي كينونة للشيء. لايدخل الشيء في موضعة المابينية، إلا وهو في وضع التناقض المتوازن، وليس في وضع انسجام. فموضعة المابين، موضعة جدلية، ستضيف لتناقضات الشيء عامل فرز وتنقية وتفتيت وحذف وإضافة، كي تقرّب الشيء من تكوين خاص به.. هذا هو عمل الموضعة المابينية، بوصفها مختبرًا لاعادة تشكيل الشيء، لذلك لا تخلق الموضعة المابينية شيئًا جديدًا، وإنما تعيد تشكيل الأشياء غير المتشكلة بوصفها موضعة “الاختلاف التي تبني مسارًا للنص، فقد يكون الشيء بعد الاستهلال: كلمة، شذرة فكرة، نغمة، صورة، شيئًا، ترنيمة، خاطرة، حلمًا، لونًا، نبوءة… إلخ. فكل مفردة فيه تعني نفسها وتعني مؤولاتها، لأنّ جملة الاستهلال بنية غامضة، ايحائية وغير مكتملة، هي جملة المبتدأ، بحيث تدفع بالمؤلف لأن يكتبها أولا، ثم يكتب الجملة التي تليها، وهكذا اي يكتب الخبر، وهكذا يكون الاستمرار فعلًا بنائيًا لماهية جملة الاستهلال. فالبئر العميقة لجملة الاستهلال قد اختزنت أثناء تموضعها في المابين بماء النص المجهول، وأصبح بامكانها ان تغذي عناصر النص بالاستعانة بتأويلات وممكنات الحياة الاجتماعية، وما توزيع النص إلى فصول وأقسام، إلّا الأجزاء لمحتوى النص، فجملة الاستهلال، جملتان: جملة للنص الذي ما من شيء يحدث في النص إلّا وله نواة في الاستهلال، وجملة القارئ، التي تتجدد بالقراءة كلما فرز المجتمع رؤية مع أو بالضد من محتوى النص. لذلك فجملة الاستهلال مؤلفة من إطارين: إطار خارجي، يختص بالمرجعيات التي جاءت منه مفرداتها، وإطار داخلي يختص ببنيتها الذاتية التي تكونت في موضعة “المابين”. ولتوسيع فكرة الإطارين، يمكن القول: إن الإطار الخارجي هو المرجعيات بكل صنوفها، والإطار الداخلي الذي يشكل بنية النص.

ستكون جملة الاستهلال مركزة، كنواة صلبة، وأفضّل أن تكون خالية من الفوارز، والنقط، والفواصل، هي حجر صوان، ما يحدث فيه من تشقق هو بسبب نار النص، اي فاعلية الأحداث والأفكار والشخصيات، والبنى المؤسساتية التي تفرز صورها ولهجاتها وأفكارها، لنجد أن جملة الاستهلال الصلبة، التكوين الكوني، تنحل في بنية النص وتتفتت إلى جزيئات، تحمل كل جزيئة صورة من صور الجملة الاستهلالية.

 ما يدفع الخبر لأن يكون مؤهلًا لجملة المبتدأ، هو البنية التكوينية المتناقضة التي ستقوم عليها هذه الجملة، وهذه البنية التكوينة الناقصة تأتي من خارج جملة الاستهلال، أي من المجتمع، من التكوينات الاجتماعية غير المحسومة، ومن القوى الفاعلة، من الأفكار المتحاورة، من الصراعات، ويمكنها ان تستعير جملاً من عوالم متخيلة. فالكثير من المؤلفين، يكتشف جملته الاستهلالية، لكنه لم يكتشف الوعاء الذي سيملؤه بها. لا يولد الاستهلال اعتباطًا، كما يتصور البعض، إنما هو نتيجة لعمليات ذهنية وحسية متجسدة في اللاوعي المعرفي فهي جملة غير مرئية ولا مقصودة، تتجمع عبر ممارسة الحياة، ثم فجأة تظهر كما لو كانت شهابًا، هذه الطريقة لا تعني أن جملة الاستهلال جملة اعتباطية، وأن النص هو الذي اخرجها، صحيح أن فكرة النص لها دور في استحضارها، لكن النص لم يكتب إلّا بفعلها حتى لو لم تكن حاضرة، لاشيء يولد من العدم، ولاشيء يولد بدون أبوين، الجملة الاستهالية تولد من عالم ما قبلها، وتنمو في رحم العالم، بانتظار ان تكمل مسيرتها في عالم النص. 

لن تكون جملة الاستهلال إلا من جنس النص، ولكن بأسلوبيّة مركزة، لأن الجملة الاستهلالية جملة جدلية، جملة سلب، وليست جملة إيجاب، جملة السلب تكون مشحونة بالأسئلة الفلسفية، والبدايات الغامضة. ولا تصلح الجملة الاستهلالية للقصة القصيرة للقصيدة، أو للرواية، ويمكننا أن نعيد التصورات الميتافيزيقية للخلق الكوني، إذ لايمكن لهذا الخلق أن يكون من تكوين واحد، أو على شكل واحد، لا بدّ من كتلة وفراغ يولد فيها جملا غامضة ومحتملة، ومشحونة بالمؤول، فثمة عالمان متناقضان لجملة الاستهلال: عالم ما قبل النص، وهو عالم من المرجعيات اللامتشكلة، من الجذور والمثيولوجيا والأنثروبولوجيا وعوالم النفس والمجتمع، وعالم النص التكويني، وكلاهما يشكل عالم ما بعد النص، فإذا قلنا جملة مثلًا: البيت سكن. أو البحر سفر، أو الشمس زرقاء. سنجد أن البيت، البحر، الشمس، كلمات مكتفية، أي أنها ايجاب للطبائع الطبيعية، كلمات لا تنفتح إلا على المتشابه، فالمتشابه يكرر بنية ساكنة. بينما يكون الخبر/ النص، في حالة سلب دائم، ودال على صورة المتخيل والمؤول، فجملة “البيت سكن”، جملتان متداخلتان: “البيت”، هو المأوى، العش، الكهف، الرحم، القبو،…الخ من الأسماء. بينما ”سكن” لا تعني إلا الفعل وتذهب إلى تنوع استعارات السكن. فقد يكون السكن: أمنًا، طمأنينة، رأسمالًا، توليدًا، بضاعة، اقتصادًا، زمنًا، ألفة، سطحًا، قبرًا، رغبة، جنسًا، رفضًا، حياة، عيشًا، لغة….الخ،  مما يعني ان الخبر/النص هو العالم. بينما المبتدأ “الاستهلال” هو اداة المنقب الآثاري، اداة دقيقة تحفر بهدوء في مخبأ الأثر.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *