ما قبل السرد

ما قبل السرد
آخر تحديث:

وارد بدر السالم

تعد الكتابة على الحيطان من الظواهر اللا أدبية المنتشرة في أماكن كثيرة من العالم لكتاب مجهولين في العادة هم من العامة، وليسوا من الشعراء والقاصين والروائيين المهتمين بصناعة الأثر الحائطي. ظهور اللا أدبي وانتشاره في المجتمعات العالمية، كونه ليس أدباً على أساس التصنيف الجنسي المتعارف عليه منذ العصر اليوناني. يشي بأنه لون شعبي، تظهره الأحداث في الغالب؛ ليست مهمته خيالية أو مجازية أو إلهامية.وعادةً ما تحفل مثل تلك الكتابات بالأخطاء الإملائية والنحوية. فبلاغتها في قيمة ما تُظهره على صفحات الحيطان بالألوان كلها. وهي مباشرة وسريعة؛ محتشدة بالأصوات التي لا تظهر، كونها لافتات مكتوبة ومرسومة بالقدر الأدنى من التعبير الواضح. لذلك فالمفهوم الواضح والواقعي لها أنها بنت لحظتها، لكنها مخترة لزمن طويل، حتى حانت فرصتها في التعبير المباشر من دون تحضير أدبي وإبداعي، فهي لا أدبية. أي لا تنتمي الى جنس مشار اليه من قبل النقاد.. لا تحفل به بشكل أدق.

(1)

هذه اللون من اللا أدبي يرافق التظاهرات المضادة للسياسات المحلية والاحتجاجات الشعبية، وليس شرطاً أن تقودها المعارضة السياسية، فقد تكون شعبية وعفوية، وباعثها الحاجة لإطلاق المكبوت ونشره على نطاق واسع، كالمطالبة بخدمات يومية، وتحييد بعض الأحزاب عن ممارسة نشاطاتها التي لا تخدم المجتمعات. ورغبات الجماهير المتظاهرة معروفة في الوسط الاجتماعي؛ تتوحد فيها الأجساد والأفكار للأغلبية الصامتة، ومع المقولة الشهيرة “لم يعد الصمتُ ممكناً” لروجيه غارودي، فإن التظاهرات والانتفاضات الجماهيرية تأخذ مداها الأوسع كدائرة تتسع ولا تضيق. ومن الطبيعي جداً أن ترافقها كتابات حائطية بشعارات ومطالب كثيرة، تشي بالنوع المطلبي الشعبي، ولم يعد الصمت علاجاً لفجوات سياسية قد تتوسع لاحقاً. ولهذا فأن المضاد من الموضوع هو الشعب ذاته بعيداً عن التقسيمات الحزبية والولائية. وهذا لا يمنع من أن نيران الثورات الشعبية واحتجاجاتها تقف وراءها  تنظيمات حزبية كمحرّك ورائي دافع لا يكشف حضوره الصريح. بما يعني أن هذه التجمعات الجماهيرية، وأحياناً السكانية؛ تفرض وظيفة اجتماعية ووظيفية فيها قدر وافر من الحكايات الشعبية التي تُشهرها يافطات المتظاهرين في المكان. فالزمن الحكائي هو زمن الآن وليس أمس والغد. أي ان واقعة الواقع هي التي تحدث تواً، لا كما حدثت وستحدث. ومن هذا فإن فلاديمير بروب الذي يدرس الأدب الشعبي يرى بأن الزمن هو الواقع الآني والحالي. بما يشكل بنية إطارية للمكان بزمن الحكاية. وبما أن التظاهرات الشعبية تشكل أكثر من حكاية وأكثر من مستوى بنيوي ونظري، فبالتالي فهي بؤرة شعبية من حكايات متتالية يمكن رصدها صراحة، ليس فقط في الصورة المباشرة لتشكيل أفواج الناس المتظاهرين، إنما الزمن الداخلي يفرز العديد مما يُحدث حكايات شعبية، لاسيما إذا احتدمت المواجهات، وفضلت السلطة استعمال السلاح بدلاً من التفاهمات. فالزمن السلطوي لا يرتبط ببنية زمن الجماعة المتظاهرة، فالولادة لها زمنها الذي يبدأ الان (في الواقع) لا كما يبدأ من استعمال الدخانيات والقنابل المسيلة للدموع. لنفهم أن التظاهرات في شعبيتها هي حكاية من حكايات الجماعة الشعبية، التي ستصبح فولكلوراً ينتشر مع الزمن بزمنيته التي حدثت.

(2)

ليس السلاح وحده قادراً على حل النزاعات بين السلطة والجماهير بل يمكن أن نرى التحشدات الشعبية تعمل على ممارسات تقليدية وتلقائية ونفسية. ككتابة الشعارات المناوئة على الحيطان وواجهات المحال والرسم العشوائي الساخر بما يشبه الكاريكاتور. وأبيات شعرية مختارة لشعراء ثوريين وجماهيريين. باستخدام الجرافيت والطباشير والباستيل والشمع والفحم وحتى القير الأسود. وكل هذا يوثق الحاجة الى تلبية النقص الشعبي في خدمات الحياة اليومية لمواطني الأغلبية الصامتة. فالكتابات الحائطية نوع من الصراخ الشعبي الموثق على حيطان وجدران، والرسوم المختلفة من كاريكاتور وأعلام وطنية ووجوه شبابية من نساء ورجال، أو رموز وطنية هي التي تبقى عادة في خضم ذلك الالتحام الجسدي والفكري المناوئ للسلطة الحاكمة. وهو السرد الطبيعي الذي يسبق السرد الفني المتعارف عليه، بوظيفته الجمالية المباشرة سواء كان رسْمة غير متكاملة فنياً، أو على مستوى الجملة التي تعبر آفاق السلاح والقنابل المسيلة للدموع. فالجملة/ الشخبوطة/ المرئية، حتى وإن كانت منزوية في أي مكان من واقعة الحدث التظاهراتي/ لها مستويات سردية يتوجب ملاحظتها من خلال بنيتها الفذّة، وإشاراتها الدلالية والجمالية. إنها روح؛ لأنها خرجت في ظرف عصيب، أُنتُزعت من أرواح شعبية لها قدرة الوصول الى السلطة كيفما كانت مواجهات تلك السلطة.

(3)

يبرز دور الجرافيتي والشمعي والزيتي وغيره من المواد المستعملة في الكتابة كرسم لافت لأنظار الآخر المتواري خلف دروعه وأسلحته ودخانياته ومسيلات الدموع وهو يمثل السلطة عادة بركائزها الدفاعية العسكرية الداخلية. هذا النوع العشوائي الذي ينفذه  المتظاهرون ليس ابتكاراً حديثاً، انما هو من القديم الموثق منذ عصر الفراعنة والعصور التي سبقتها وأعقبتها كحالة إشارية لأكثر من موضوع  فني وشعبي. توثيق للأثر القديم عندما لم تكن الكتابة ذات مفعول سحري منتشر بين الأوساط الشعبية الفرعونية على حيطان المعابد وشواهد المقابر لتكون صفحات مفتوحة تتم عليها ممارسة الرسوم الأولية والبدائية تقريباً. وقد حدث هذا في بلاد النهرين المعرفية واليونان الفلسفية والفترات الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. سواء لتوثيق الأثر الاجتماعي والسياسي، أو لتوثيق السخط الشعبي والجماهيري عبر هذه الأيقونات الكتابية والخطية والرسمية. ولا ننسى بأن الفلسطينيين كتبوا في ظروف قاسية جملاً روحية وثورية في الجرافيك والطباشير والقير الأسود منددين بالاحتلال الصهيوني. حتى بالرسوم الساخرة، والكتابة العشوائية ذات الهدف الواضح وكان ذلك أضعف الإيمان بقضية معقدة كالقضية الفلسطينية. الكتابة والرسم الساخر يتآخيان مع الهتاف ويستمران معه الى آجال طويلة في توثيقهما الرسْمي والكتابي. كونهما من الفنون والكتابات الصامتة في ظاهرهما. إلا أنهما يتميزان بالقدرة على التوصيل والإيصال، فالرسْمة العشوائية نوع سردي فني تضم في تكوينها الشعار والصرخة والنوع الاحتجاجي، ومثل هذا الفن العفوي يترك انطباعاً مباشراً؛ لا رمزياً حسب؛ عن الحالة الشعبية التي فتحت حناجر الصمت بالأصوات العالية، والأفكار الرسْمية والكاريكاتورية المعبّرة. لتقريب الصورة المطلوبة بأيسر المواجهات التي لا تحتاج الى أسلحة ونيران عدوّة. حتى تتطابق سرديات الاحتجاج، وتتحول هستيريا الصراخ العالي الى لغة أخرى، قوامها الفن الأولي في معايرة اللغة الصوتية وتجميدها على حائط لتراه السلطة أو الاحتلال الغاشم.

(4)

ينتشر أدب الحيطان العفوي لأسباب مختلفة ودواعٍ مسببة له، منها السياسي ومنها العاطفي. وإذا ما تركنا العاطفي لمعرفتنا المسبقة بصيرورته الداعية له، فإن النوع  السياسي هو الذي يلامس الوجه المجتمعي ويعبّر عنه. وهو الأكثر شيوعاً في الدول التي تعاني من إرهاصات كثيرة في الحرية واللا عدل والديموقراطية غير المتكاملة. وبالتالي فأنّ شيوع اللا أدبي ناتج من نواتج تلك الإرهاصات الأولية. ومعبّر صريح في شعارات ولافتات تشير الى النوع السياسي الحاكم. وتدعوه الى فك أسر المجتمع. فعندما يصبح الحائط هو الكتاب، تمتثل له أصابع الكتابة بطريقة مجنونة، وتتحول الى أقلام جارحة ومشارط حادة. وتتسابق لترجمة ما يجيش في صدور الأغلبية الصامتة. فالكتابة اللا أدبية؛ التي لا تحفل بأن تكون جنساً أدبياً؛ لأنها جماعية وليس لها كاتب بعينه؛ هي الصوت المخفي، على عكس الكتابة الأدبية ذات الجنس الواضح والفكرة المرتهنة لواقعها الاجتماعي والسياسي. وإذا ما كان الأديب يغلّف في بعض الأحيان كتاباته بأغلفة وأقنعة تهرباً من سلطة حاكمة، فأن الجماهير التي ترى بأن الحكم يجب أن يكون لشعب ديموقراطي، لم يكن أمامها سوى الحيطان التي تحولها الى ورق من الاسمنت والطابوق بتحشدات صارخة، بشعارات ومطالب ولافتات واضحة ومقروءة بأصباغ البوية والقير التي لا تُمحى بسهولة.

تلك هي السرود المقتضبة، السريعة، بنصوص لا أدبية ليست مهمتها القواعد والإنشاء والمجاز والبيان والبلاغة. عندما تتحول الحيطان الى دفاتر مفتوحة تبقى لوقت طويل جداً. كما حدث في السرديات التشرينية العراقية، فما يزال نفق ساحة التحرير يحتفظ بالرسومات والكتابات الشعارية كمتحف ثابت الى هذا اليوم. والرسومات البدائية والتعبيرية والواقعية ما زالت تحتفظ بالنكهة التشرينية وأنفاسها الثورية التي كانت في وقت ما (2019) شرارة نافذة من شرارات القوة الشعبية والجماهيرية. فالقوة السيكولوجية الدافعة للجماهير هي الأقوى في لحظتها الزمنية المختارة.

(5)

المواهب النسائية والرجالية في احتدام الصراع التظاهراتي  تتجلى بعفويتها بعيداً عن تنظيرات النقد وحداثة النقد المضاد، إذ شكّلت منهجيتها الفورية على حيطان المكاتب والساحات والبيوت ودوائر الدولة، كنوع من الاحتجاج العلني. فالذين يرسمون صور الوطن على حيطان البيوت والدوائر الرسمية ليسوا فنانين بطبيعة الحال. لكن اكتظاظ الحالة الباطنية تجعلهم يمارسون النوع الثقافي بالصور والتشكيلات كلها؛ رسماً وكتابةً. للتعبير عن الجيَشان الداخلي الذين يجيش في صدور الأغلبية الصامتة، التي وجدت فرصتها في الانتقال الى مرحلة الهتاف العلني، ومن ثم تحويل الجدران الى دفاتر ثورية تبقى مع الزمن طويلاً، ببصمة مجتمعية وسرديات يتصل بعضها ببعض في شعارات وإن تشابهت كثيراً، غير أنها انتظمت بسياق جماعي على نقد السلطة التي عليها أن تتفهمها بشكل مباشر. لذلك فأن السرديات الحائطية هي نوع من الصرخات الجماعية. تحمل معها شذرات واضحة من المطالب الفورية والمؤجلة، لكنها تشرح الحالة المجتمعية بطريقة لا لبس فيها.

(6)

كتابات الحيطان ورسوماتها العشوائية هي سرديات تفاهمية وليست صِدامية في الأحوال كلها، ولا نظن بأنها تنطوي على تشفير سري، بقدر وضوحها الخارجي والباطني. فالسخرية من الأنظمة السياسية هي إحدى الوسائل التعبيرية في هذا النوع من المواجهات. والكاريكاتور يأخذ نسبته الجمالية في ترجمة الحال الاجتماعية وأحوالها المختلفة. وألوان الرسومات الحادّة وأشكالها، تشي بالنوع الجماهيري الغاضب في تعبيره عن الذات الجماعية لا الفردية حسب. والكتابات البرقية؛ مع لا أدبيتها وجنسها غير المدوّن؛ تعطي إشارات لمّاحة، حتى لو كانت من أبيات شعرية لشعراء معروفين. أو أمثال شعبية، أو حِكم معروفة. وتمنح السرّاد فسحة إلهامية لمعاينة الواقع عبر التظاهرات وأدبياتها الممنوحة للجميع. فالحقيقة التي ننتبه اليها أن المسرودات على أنواعها الشفاهية والكتابية لا تخلو منها الشعبيات والمدنيات على مر الأزمنة والأمكنة، ووجودها (كوجود الحياة) كما يعبّر عن ذلك رولان بارت وأن البنية الصغرى، كالتظاهرات، تؤسس الى خطاب أوسع بما يسميه النقد خطاب البنية الكبرى. فالجملة الحائطية المكثفة، تفسر نفسها بنفسها، وليست قابلة للتأويل أو الشرح، ولا يمكن للجملة التي تأتي بعدها، أن تفسرها أو تلقي عليها حمولات معنى آخر، فالجملة التي تصبح خطاباً عاماً تشكل من حولها هالة من بنية أوسع وأكثر تأثيراً. وتحمل معها طبقاتها لجملة تالية يكتبها متظاهر مجهول آخر في مكان حائطي بارز. ومجموع الجمل؛ لو جُمعت وقُرئت؛ سيتكون الخطاب الأعم بما يسمى بالبنية الكبرى. فالمستويات الجُّمَلية؛ وإن بدت شخابيط مدرسية؛ غير أنها تمنح القراءة مستويات متلاحقة كلما تصاعدت وتيرة الاحتكاك وشكلت الأصوات هديراً عالياً، وتكاثفت اليافطات والرسوم المتعددة.

(7)

هذه اللا أدبيات التي تحضر بلا إلهام متوقع، تسبق أدبيات السرد وتتفوق عليها بمراحل كبيرة، حتى لو لم يتحقق الشرط المعلن لها، كونها عفوية. مباشرة. هادفة. معارِضة صريحة. بنت لحظتها. ثورية متقدمة. لكنها تمنح رؤية تالية للسرد الأدبي من رواية وقصة ومسرحية وقصيدة أن تتجلى في استدعاء الماضي الجرافيتي والطباشيري الشعاري والفني البسيط أن يكون أحد الوثائق الملهمة في كتابة أخرى، مستريحة من الضغط النفسي الذي يتولد أثناء ثورات الأغلبيات الصامتة.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *