عبد الزهرة زكي
قيمة أيّ شاعر، كشاعر، هي بقيمة ما ينجز وما يخلفه من نصوص الشعر، كل ما خلا هذا هو شأن أو شؤون أخرى، مهما كانت مهمة، تظل تتعلق بالشاعر، كإنسان، وبسيرته في الحياة حتى وإن أثّرت هذه الشؤون في عمله الشعري وانطبعت نصوصه بآثارها وأصدائها.كنتُ أفكر، قبل حين من كتابة هذا المقال، بالمصير التعس المبكّر الذي ينهي به الموتُ حياة شاعر، وذلك قبل أن ينجز هذا الشاعر وعده الشعري تماماً. كان أمامي ديوان (طبّال الليل) لشاعره الراحل قاسم جبارة، وهذا الديوان صدر بمبادرة ووفاءٍ من الشاعر جمال جمعة (من خلال الدار العربية للعلوم) وذلك بعد سنوات على الرحيل المأساوي للشاعر حين كان في مغتربه الأوروبي.
ما بقي من الشاعر الراحل هي نصوص سمحت بتكون الديوان، وهي نصوص غزيرة مقارنةً بالعمر القصير لمؤلفها سواء في الحياة أو في الشعر. هذا هو الأثر الحي الباقي من شاعر مات، سوى هذا فثمة حكاية تظلّ تروى عن حياة تعيسة ومصير أتعس ختم تلك الحياة التي عاشها جبارة.الأثر (النصوص) تظل تقاوم الموت كأثر حيٍّ، بينما الحكاية تقترب وتختلط بعشرات ومئات وآلاف الحكايا المتماثلة التي يخلفها بشرٌ مروا على الأرض، ولم يكن لهم من نصيب فيها سوى ما ظلت ترمي به الحياة من مراراتها على مسيرهم العابر في العذاب.ديوان قاسم جبارة منشغل كثيراً بتلقي الشاعر تلك المرارات، وهو ديون حافلٌ بالآثار الصادمة لتلك المرارات، إنها آثار وندوب في روح الشاعر، وهي علامات جارحة في جسد الشعر كما تعبر عنه نصوص الديوان.
يقدم الشاعر، عبر واحدة من قصائد الديوان، الكثير من التعريفات عن نفسه. تحمل القصيدة المكتوبة في سالزبرغ العام 1985هذا العنوان (قاسم جبارة في معركة كبرى مع ظله)، لكن قاسم المتوفى العام 1987 يخلّف لنا من بين تلك التعريفات الكثيرة هذا التعريف:
إني
خبز معجون لحصار قادم
وجريح في زنزانة بنك
مدخر للمعركة الأخرى.
وهذا تعريفٌ قد يكون أخفّ وطأةً وقسوة من تعريفات كثيرة تضمنتها القصيدة التي بنيت على استمرار توالي التعريفات من بدء القصيدة حتى ختامها، وهي تعريفات تبدأ بـ (إني). لكن الإشارة إلى التعريف السابق وإيراده هنا هما بقصد الوقوف على انصراف الشاعر عن لحظة محنته في الحياة، آن كتابة القصيدة، ليغور في ظلام جحيم الآتي من سنوات.الشاعر يقف،عبرالنص،عند هذه السنوات قبل أوانها لكنه يتجاوزها ويتفاداها بالموت الذي اختطفه قبل بلوغ جحيمها.ينطلق الشاعر من رعب حاضره، من الدمار الذي تتقدم فيه حياته فتأتي القصائد محملة بـ (معارك وهمية) وبـ (تحليل صوري عن مجزرة لم تحصل) و(معركة لا تعني شيئاً)، ذلك هو حاضر ذهن ممزق بحروب متوهمة أو متخيلة لكنها حروب ستفضي إلى حروب واقعية أتعس؛ حرب الشاعر ضد العالم، وحروب العالم التي تطحن بدوران عجلتها حياة الشاعر.في مقال استذكاري وضعه الكاتب والرسام سعيد فرحان وختم جمال جمعة به ديوان قاسم جبارة يتحدث سعيد فرحان عن رسالة جاءته من الشاعر قبل رحيله، وقد كتب في جانب منها: (كان ينبغي أن لا تحدث كل هذه المآسي لو أني لم أولد يوماً، أو على الأقل لو لم تكن هناك لوثة في الرأس اسمها الحواس. لماذا كان ينبغي أن أكون شاعراً، ألكي أموت بطريقة أخرى؟).
مبادرة جمال جمعة بجمع نصوص قاسم جبارة وإصدارها بديوان أنيق تذكّر بمبادرة وفاء أخرى نهض بها الشاعر حيدر الكعبي حين ظل يعمل طويلاً من أجل جمع ما أتيح له جمعه من نصوص لشعراء عراقيين معدومين أو مغتالين وضمها في انطولوجيا حملت عنوان (أعمدة النيران الخضراء) وأصدرتها دار الجمل. هذه مبادرة مهمة في جمع نصوص متفرقة للشعراء الأربعة عشر الذين تكونت منهم الأنطولوجيا. وهي نصوص تعبر بصيغ مختلفة عن مدى جدية كثير منها وعما كانت تحمله من وعد شعري لم يتح له أن يفصح عن نفسه تماماً.الموت يستبق إرادة الشعر في الحياة، لكن الشعر يظل من وسائل الإنسان لتحدي الموت. قصائد الشعراء في الانطولوجيا تتكفل، في جانب أساس منها، بمثل هذه المهمة التي يتحدى بها الشعر الموتَ. إنها نصوص حياة حتى في ذروة ما تعبر عنه من انطفاء لجذوة الحياة؛ نصوص يتحرر كثيرها من صيغ التعبيرالشعري الإيديولوجي، وهي صيغ متوقعة في مثل هذه الحالات التي انتهت إليها مصائر الشعراء. وهذه قيمة مهمة تزيد من مشاعر الأسى التي ننظر بها إلى وعود شعرية لم تكتمل.
يمكن لجهد مؤسسي بإمكانات مناسبة أن يقوم بمسؤولية جمع دواوين هؤلاء الشعراء ومعهم آخرون ممن ماتوا بظروف مختلفة والاهتمام بها، خصوصا أن انطولوجيا حيدر الكعبي تضمنت نصوصا جديرة بالاعتبار لشعراء بعضهم لم يصدر له ديوان حتى الآن. لكن أنى ذلك فيما المؤسسات عاجزة عن ايفاء متطلبات الأحياء من النشر والترويج؟وحتى نظفر بمؤسسات مؤهلة لمثل هذه الأدوار تظل مبادرات الأدباء أنفسهم تجاه زملائهم الراحلين وآثارهم الأدبية هي مما يعوَّل عليه، وهي ما تسد بعضاً من فراغ كبير يخلفه فساد المؤسسات أو جهلها بأدوارها ومسؤولياتها إزاء الأحياء والموتى من أدباء وكتاب.