مدارات الصورة

مدارات الصورة
آخر تحديث:

جاسم عاصي
إن توصيف دافنشي لوظيفة وخاصية الصورة الفوتوغرافية بان (التصوير يقدم اعماله الطبيعية إلى الحس الإنساني بقدر من الحقيقة واليقين يفوق ما تقدمه الكلمات والحروف ) إنما ليؤكد على حقيقة ما تقدمه عبر مفردات بصرية ، تحتمل انبعاث الحياة والحركة ، لتكون ضمن المقروءات التي تُشير وتؤكد حقيقة ما يُرى بصرياً . فالصورة وبهذا القدر من التأكيد إنما تضعنا على مشارف عمق الواقع المنسي ، وهي متن للذاكرة التي تتجلى خلالها كل الحياة المؤجلة . وبهذا تكتسب الصورة فعلاً مرئياً فيه مجموعة إشارات نقود إلى كشف وتجلي متن التاريخ . فهي أحد أوجه التاريخ ، ومتنه المرئي . فالصورة إذاً هي الجسد الذي نصادفه في الشارع والمطبخ والمعمل والحقل ،حتى الذي نداعبه بلذة وشوّق في السرير. إنه جسد كصفة نُزعت عنه كل المناطق النفعية ، ليصبح دالاً على وظيفة واحدة ؛ هي الوظيفة الايروسية. فهي خلاف النص الذي يتوسل باللغة في انتاج مضامينه . 
العفوية
من هذا نجد أن الصورة تضعنا وفق عفويتها ضمن حقل معرفة النموذج ،وهو جزء من كادرها الذاتي والموضوعي . فالعفوية والقصد في انتاج الصورة يخضع إلى الأبنية الفنية المشكّلة لذهن المصوّر ، ولذائقته وحسن اختياره للقطة . فهو بهذا يعمل على إخضاع العفوية التي تتخاطر مع الذهن البشري ، باتجاه الحراك الفني . فالذي يقوم به المصوّرــ الفنان هو فعل إنتاج إبداعي ، فالقصد يندرج ضمن حقل التجميل ، أي إضفاء البنية الفنية ــ الجمالية لما هو مصوّر من الواقع . ووظيفتها الأساسية التوثيق ، والاحتفاظ بما هو معرّض للاندثار والمحو العفوي والمقصود  كالأمكنة مثلاً ، التي تتعرض للإهمال والتخريب المتعمد. لاسيّما الأمكنة ذات الصفة الأثرية  ولعل عكس حقيقة المصوَّر من الواقع دال على توثيق طبيعة العلاقات الاجتماعية في ذاكرة الصورة ، والتي تظهر كما لو أنها حياة نابضة بفعل حقيقة مكوّناتها . فالصورة بهذا المعنى هي الأكثر واقعية من الفنون الأُخرى ، لأنها تتعامل مع الواقع بتسجيلية مدهشة .فهي كجنس ابداعي ، تعمل على توثيق العلاقات (الأسرية ، الاجتماعية السياسية ، تاريخ المُدن والحارات الشعبية ، الحِرَف، تاريخ القوميات والجماعات الاثنية ). وبهذا الاهتمام والوظيفة تستكمل الصورة محيط دائرتها الذي لا ينفّك يتوسع عند هذا الفنان أو ذاك ، أو يكتسب خاصية جديدة مضافة إلى تاريخ الفوتوغراف .أما تأثيرات الصورة على المتلقي ، فهي بمثابة محاولة وضعه ضمن دائرة مرّحلة ، أي سحب المتلقي باتجاه أزمنة منصرمة ، مما ينتج حالات وظواهر إنسانية لديه كـ( الفرح ، الغضب ، الحزن ،الثورة ، التحريض ) . فكل هذه المفردات تنعكس وفق المكوّن النفسي للمتلقي ، لأن الصورة تُقدم له أنموذجا يتداعى مع تخاطره وحراك ذاكرته . فهي مثيرة للعاطفة الإنسانية ، ومبوب لها مجالاً ضمن الحقل الذي تُشير إليه وتعمل فيه. فالرائي الذي ُيشاهد صورة لرأس الحسين مثلاً أو حرق الخيام ومشهد الدماء ، كل هذا يُثير مزيجا من عاطفته وغضبه واحتجاجه ،ويحرث في مكوّنه الميثولوجي فتصدر منه سلوكيات مختلفة في وسائل وأنماط تعبيرها ؛معبّرة عن موقفه إزاء ما يرى . أو ما ترويه له الصورة من حدث دامي تراجيدي ميثولوجي.. تربطه بمعتقده ومكوّنه الفكري والديني.

عوالم الصورة
 ومن الوظائف التي تُثيرها الصورة ، هي حالة التأمل في المحتوى ، وحصراً في الصورة ذات المحمولات الفلسفية ،التي تُثير أسئلة المتلقي عبر ما يجده ضمن كادر الصورة وحالات الأشياء في المكان . فمثلاً إذا كان ثمة مجموعة من الكراسي مصوّرة بشكل عفوي يعكس تبعثرها كل إلى جهة ، فهذا يُشير إلى اختلاف الجلّاس والعكس يصح . وهذا بطبيعته يقود إلى متن انثروبولوجي خالص ، فالرائي الدارس للصورة ، اخذ بالنتائج ليدرس الظواهر الاجتماعية السائدة في الزمن  .فالصورة حسب رأي ( ميرلوبونتي) في كوّن العين ترى العالم المرئي كما يسكن الإنسان بيتاً، فالمصوّر يحاول خلال الصورة ومكوّناتها أن يسد النقص الحاصل في الواقع ، فالتصوير له  علاقة مباشرة بالحس الذاتي لتجسيد الحس الإنساني العام . وبهذا يكون عمل المصوّر هو التعامل مع الواقع وفق تصوّره الذاتي ، أو بما هي محمولات الذات ، فالمصوّر ووفق (سيزان) القائل أن الطبيعة في الداخل ، وليس بما نشاهده أمامنا . بمعنى ما ينعكس في الذات من جمال لها ،والفنان تعامل مع ما يرى ، لا مع ما هو موجود فقط . فمن القبيح يصنع الجمال والعكس صحيح. إن المصوّر فاعل اجتماعي ، ينتج صورة باعتبارها تتعامل مع شريحة من الزمان والمكان ، وتعكس علاقات قارّة بين الأفراد والجماعات، وتوّن جماليات الوجود وخرابه دون الاهتمام بالمسبب . فجدلية الصورة تنبع من داخل محتواها الفعلي (الساكن/ المتحرك) . إن فعل المصوّر باعتباره أحد منتجي صوّر الواقع ، يدفع الصورة إلى مستوى تمتلك خلاله قدرة ذاتية على سد وملء الفراغات التي تؤكدها تصوّراتنا الذهنية عن أزمنة مختلفة ؛ الماضي والحاضر ، وعكس الرؤى المتمكنة من ايجاد صلة بين المتلقي ومحتو الصورة في كل زمان ومكان . أو على حد قول( رولان بارت) من أن الصورة تعمل على اثبات ما هو ممحو من الذاكرة ، أو ننعته بالمشهد المؤجل . ، وبهذا تكون حاملة لمجموعة علامات تشكل عناصر مهمة في الصورة..

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *