قراءةُ الشعر قبل كلّ شيء متعه فائقه لا تدانيها متعة، فالشعرُ تاريخٌ وحضارةٌ وحياةٌ وإحساسٌ ولغةٌ وصورةٌ وأفقٌ وفضاءٌ وروحٌ وأملٌ وملاذٌ وخلاصٌ بلا حدود، وربّما لا يوجد من يحسن القراءة على وجه الأرض لا يمارس هذا النوع من النشاط الإنسانيّ الخلّاق على نحو أو آخر، ومثلما يتعدّد الشعر ويتنوّع فَقُرّاءُ الشعر يتعدّدون ويتنوّعون، والقراءة نفسها تتعدّد وتتنوّع، بحسب عوامل كثيرة ومتشعّبة لا حصر لها، منها ذاتيّة، ومنها موضوعيّة، ومنها نصيّة، ومنها ثقافيّة، ومنها بيئيّة، ومنها زمنيّة، ومنها مكانيّة، ومنها مزاجيّة، ومنها حاليّة، ويمكن أن تمتدّ هذه العوامل إلى مسارات أكثر وأوسع وأرحب وأعمق منذ أقدم قصيدة قيلت في التاريخ حتى الآن، ولدى مختلف الشعوب والحضارات والأمم، لننتهي إلى نتيجة مفادها أنْ لا غنى للإنسان عن الشعر من حيث المبدأ الطبيعيّ لحسّاسيّة الإنسان وحاجته الروحيّة والثقافيّة لكائن جميل لا بديل له يسمّونه (الشعر).
قدّمتْ لنا نظريات القراءة والتلقّي آفاقاً جديدة لفهم هذه الفعّاليّة الحيويّة وإدراك أسرارها، فكانت القراءة قراءات، والقارئ قرّاء، وتحوّلت القراءة من فعل بسيط لتزجية الوقت والمتعة العابرة والاطلاع على ما لا يعرف القارئ من معلومات توفّرها له الكتب، إلى فعّاليّة ذات أصول نظريّة وتطبيقيّة إجرائيّة تندرج في سياق رؤية منهجيّة حديثة تتجاوز كثيراً المفهوم التقليديّ البسيط للقراءة، لذا اصطُلح عليها بـ (نظريّة) أو (نظريات)، وصارت الآن مرحلة مهمّة من مرحل تطوّر المناهج النقديّة الحديثة في العالم. النظريات والرؤيات والمناهج والمفاهيم والمصطلحات رافد مركزيّ بالغ الأهمية لتوطين القراءة في جغرافيا معرفيّة لا بدّ منها، لأنّ القراءة بمعزل عنها تكون انطباعيّة يمكن أن تنتج رؤية معيّنة للمقروء في حالة معيّنة ومزاج معيّن ومقصد معيّن، لكنّها لا يمكن أن تنتج معرفة نقديّة تتجاوز الحالة والمزاج والمقصد المحدّد لتنفتح على فضاء معرفيّ ثريّ وخصب، بحيث تتحوّل القراءة المستندة لظهير نظريّ ورؤيويّ ومنهجيّ بهذا المستوى إلى وسيلة معرفيّة أكيدة تتوغّل في أعماق الحراك المعرفيّ المُنتِج. قراءة الشعر من حيث هي قراءة تخضع للشروط القرائيّة العامة التي أفرزتها النظريات والرؤيات والمناهج في تمثّلاتها النظريّة والإجرائيّة التي قدّمتها الثورة النقديّة المنهجيّة الحديثة، لكنّ الخصوصيّة الأجناسيّة لفنّ الشعر تفرض على فضاء القراءة خصوصيّات نابعة من طبيعة الجنس الأدبيّ وكيفيّته وطُرُز تشكّلاته ونظمه النوعيّة، وهو ما يفتح السبيل واسعاً لاكتشاف ممارسات قرائيّة تلائم الشعر وتستجيب لآفاق خطابه وعناصر تشكيله ومقاصد تواصليّته، وتنتمي إلى حسّاسيّة القارئ نفسه على صعيد الثقافة والفهم والمزاج والوعي والجوّ والقصديّة والتمثّل والمعرفة، فالنظريّة والرؤية والمنهج والمفهوم والمصطلح وكلّ ما يتعلّق بهذه المنظومة المعرفيّة الساندة والراصدة والفاعلة تحضر في منطقة القراءة بوصفها الأرضيّة السليمة الضروريّة لإنجاز فعل القراءة. ثّمة علاقة جدليّة أصيلة لا بدّ من حضورها في أعلى مستوى وأخطر قيمة بين قراءة الشعر وقارئ الشعر ضمن المجال الثلاثيّ المشتبك بقوّة: (القارئ والنصّ والقراءة)، قراءة الشعر بوصفها نظريّة تقوم على أسس ومنطلقات رؤيويّة ومنهجيّة ومفهوميّة واصطلاحيّة، وقارئ الشعر بوصفه إنساناً له ذاتٌ قرائيّةٌ نابعةٌ من ثقافته ورؤيته وحسّاسيّته ومزاجه القرائيّ، وربّما يكون فحص هذه الجدليّة أمراً ليس هيّناً وينطوي على صعوبات جمّة، فضلاً عن النصّ الشعريّ نفسه بوصفه قاعدة المثلّث وأساس حركة الأطراف، وهو يتوسّط بين القارئ وفعل القراءة داخل ممارسة إجرائيّة فريدة. قراءة الشعر من أكثر أنواع القراءات حاجةً للتأمّل والتدبّر والفحص والمعاينة والنظر المعمّق المستمرّ في لغة المقروء وفضائه وجغرافيته الكتابيّة وتمثّلاته ومرجعيّاته، لذا لا يمكن الاكتفاء بقراءة واحدة أو اثنتين للنصّ الشعريّ المتميّز، بل التوغّل القرائيّ الشاسع حتى بلوغ درجة الإشباع القرائيّ والاكتفاء الحسيّ الثريّ، وهو يشير إلى أدوات القراءة بالتوقّف عند حدّ معيّن لا يمكن بعده الاستمرار فقد وصل الفعل القرائيّ أوجه، واستطاع التوغّل بحسب قدرات القارئ وحاجاته القرائيّة إلى سقف القراءة الحاسم. فحين تنتقل قراءة الشعر من مستوى القراءة المُتَعيّة إلى القراءة النقديّة فإنّ ذلك يتطلّب جملة أدوات لا بدّ منها لذلك، ولعلّ من أبرزها (القصديّة النقديّة)، بمعنى أنّ القراءة استنفدت جانبها الإبهاريّ المنشغل بمتعة القراءة والإعجاب ودخلت في جانب معرفيّ نقديّ، لا يُلغي حالة الاستمتاع المستمرّة إنّما يطوّرها ويستثمرها من أجل ولوج طبقات أخرى في النصّ الشعريّ في سبيل مزيد من الكشف والاكتشاف. الثقافة العامّة في حقول المعرفة الإنسانيّة الأساسيّة مثل علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة وغيرها من العلوم المجاورة تعدّ أداة جوهريّة في ممارسة سليمة لقراءة الشعر، فضلاً عن الخبرة القرائيّة الخصبة والمتنوّعة في مجال المعرفة الأدبيّة عموماً، والشعريّة منها على نحو خاصّ، والمتابعة المستمرّة الأصيلة لكلّ ما يستجدّ من نصوص وظواهر ومعالجات ونظريات وابتكارات تتعلّق بالنصّ الشعريّ وما يحيط به، والاستناد إلى وعيٍ مثقّفٍ وعارفٍ بالمناهج النقديّة وآليّاتها وتقاناتها في قدرتها على مساعدة القراءة للوصول إلى أمثل وأغنى قراءة ممكنة، والإخلاص للنصّ إخلاصاً عشقيّاً خالياً من أيّة مصلحة يمكن أن تخلّ بشرط الانتماء والإيمان والصفاء والنقاء الّلازم لعافية القراءة وصحّتها المطلوبة، واستحضار أكبر طاقة ممكنة لتلمّس طراوة ماء اللغة الشعريّة والإحساس بوظيفتها في إنعاش حيوات النصّ الشعريّ وضمان تدفّقه وتوالده في حاضنة القراءة الراعية.