في سنة 1994 كنت قي حديث مع احد وزراء النظام السابق فدار نقاش حول المقترحات المهمة التي من الممكن تقديمها للتخفيف عن كاهل الناس لغرض طرحها في اجتماع مجلس الوزراء الذي صادف عقده في اليوم الثاني لجلسة الحديث ، ولا أخفيكم سرا إنني استثمرت أجواء المناقشة فسألت الوزير متى تضعون معالجة لرواتب الموظفين فسالني وما هو العيب في رواتبهم الحالية فأجبته في الحال إن الراتب الشهري للموظف هو 3 الآلاف دينار ولا يكفي لشراء ( حذاء اجلكم الله) ، فابتسم الوزير قائلا إن الموظف يستطيع أن يغطي ذلك أما من خلال السرقات أو انه يستخدم الوظيفة لقضاء الوقت آو لإشغال عمل آخر وأكثر الموظفين لا يعتمدون على الوظيفة للمعيشة بل على وسائل أخرى ولو إن الموظفين مصدرهم هي الرواتب فحسب لما وجدت موظفا عاقلا يقبل العمل بالراتب الذي ذكرته قبل قليل ، فتملكني غضبا وقلت للوزير هل تحسبونا على الحرامية والسراق ونحن نحمل شهادات عليا ولدينا خبرات وكفاءات ، فقال الوزير بطريقة تطمأن الطرف المقابل إن الفرق في الموضوع انك تتكلم بالخصوص وأنا أتكلم بالعموم وأضاف أنت لا تتحدث على العاملين في التصنيع العسكري الذين يقبضون نصف مليون دينار شهريا ولكنهم يعملون لعشرة ساعات على الأقل وليس لهم فسحة لسرقة كوب من الماء لغرض الشرب .
ولم يكن هذا الحديث استعراضيا أو انه مر مرور الكرام ولكني فهمت من خلاله إن الدولة على علم بوجود الفساد كما أنها على معرفة بحجم وأهمية وتداعيات الفساد وكيفية السيطرة عليه متى تشاء ولعلها كانت فلسفة لدى الكثير في طريقة إدارة بعض المنشآت فهو مسموح في مكان ومحرم في آخر كما إن إعطاء المرونة فيه كانت من وسائل إدارة الوظائف العامة بأقل التكاليف ، ومن خلال متابعة لتفاصيل الحياة فان الرواتب لم تشهده تغييرا منذ 1994 لغاية 2003 كما إن حمى الفساد أخذت بالزيادة يوما بعد يوم ولم ترصد أو تخضع للمساءلة والحساب سوى حالات صغيرة إي عندما تكون خارج حدودها المرسومة ، في الوقت نفسه انتشر الفساد بشكل رسمي مبطن بحيث يتم دفع نسبة 5-10% عن العقود المبرمة بموجب مذكرة التفاهم كحصة للدولة لتغطية نفقاتها المهمة وبات حمل الحقائب المملوءة بالدولارات حالة مألوفة لشراء ما يريدون من الخارج كما أصبحت الرشاوى والهدايا والهبات حالات تتكرر في المدرسة والدائرة وعند دفع الرسوم والضرائب وفي اغلب المعاملات والتعاملات ، ورغم إجراء حملات وفزعات وطنية في مختلف المجالات لم نجد جهدا حقيقيا لمعالجة الفساد رغم انه ينتشر بشكل غير مالوف إي انه يمارس بشكل خفي لان السلطة يمكن أن تنقلب عليه بأية لحظة من اللحظات و( بجرة قلم ) كما كانوا يقولون ، ولم يكن الفساد يأخذ حيزا مهما من اهتمامات الناس لان الدولة خالية من الموازنة والإيرادات محددة بموجب مذكرة التفاهم والأمم المتحدة تهيمن على اتفاقية تصدير النفط مقابل الغذاء والحياة شبه معطلة لان الاعتماد يتم على مفردات البطاقة التموينية التي لم تشهد فضائح مهمة كما هو الحال اليوم ، ولكن الفساد موجود فعلا ولكنه لا يتوسع بشكل كبير لان قيادة الدولة لا تسمح بانتشار وتقوية الفاسدين لأنهم قد يشكلون تهديدا لأركان السلطة الحاكمة وقتذاك .
واختلف الحال تماما بعد احتلال العراق سنة 2003 لان المحتل هو من نشر الفساد وشجع عليه كما انه تستر على الفاسدين والمفسدين وتحول من فساد شخصي بسيط إلى فساد نظمي حيث تزامن ظهوره مع التضخم بإيرادات الدولة التي تصل إلى مليارات الدولارات وامتداد الفساد كما ونوعا ليسرق لقمة الخبز من بين أيدي الفقراء بلا رحمة وشمل مفاصل الدولة المختلفة ، فالفساد منتشر ويستطيع كل فرد أن يمارسه ولكن والحمد الله هناك الكثير ممن يترفعون عن الفساد ويحتقرون الفاسدين والمفسدين سواء كانوا من الفاسدين الهواة أو من الحيتان ، ولعل تسمية الدولة العميقة تعبيرا يوضح مساحة وحجم الفساد كما انه يشير إلى الحماية التي يتمتع بها بعض ممارسي الفساد ومن المؤسف حقا أن يحتل بلدنا مستويات متدنية بسبب الفساد وضياع الأموال كما إن من العجب أن يحتل موضوع مكافحة الفساد أولويات الحكومات التي تعاقبت بعد 2004 ولكن الفساد يكبر ويتكاثر ولا تنفع معه كل المعالجات رغم استحداث العديد من الأجهزة الرقابية المعنية بالفساد ، ولا نعتقد بان معالجة الفساد ستكون مجدية وبمستوى التطلعات خلال السنوات القريبة القادمة من خلال التربية والتوجيه أن لم تكن الأجهزة المعنية متكاتفة في معالجته بالقول والفعل لأنه خرج عن المألوف وبات مسوغا للتخريب ، وليس تبسيطا للموضوع والمعالجات التي يحتاجها كحلول للمشاكل التي يخلفها انتشاره وإنما لغرض الإسهام في الحد من الفساد فإننا نقترح بعض الحلول له من خلال سلطة القضاء لحين توفر الإرادة الجمعية للقضاء عليه :
إحالة كل موظف يثبت تورطه بالفساد من الدينار إلى المليارات بعقوبة ( العزل ) بشكل لا يسمح بإعادته للوظيفة مستقبلا أبدا .
إن تكون عقوبة الفاسدين والمفسدين السجن 15 عاما غير قابلة للعفو الخاص أو العام أو الاستبدال لكي نكون حازمين وعادلين .
مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة للفاسدين والتحري عن أموال أقاربهم من حيث المصدر بما يضمن استرداد أموال الشعب .
تفعيل علاقة الدولة مع المنظمات والدول الأخرى لإعادة الفاسدين واسترداد الأموال على أن يتم وضعهم في أيادي أمينة وليس القبض عليهم ومحاكمتهم صوريا لضمان عدم إطلاق حرياتهم .
تجريم الجهات والكيانات عند ثبوت تورطها بالفساد وسحب إجازاتهم ورخصهم بما يمنع عليهم ممارسة النشاط لأنهم فاسدين .
الشفافية في مجال إيرادات ونفقات وقروض العراق وبإصدارات يطلع عليها الجمهور ويمكنه إبداء الرأي بها وليس لمجرد الإعلان .
إحالة كل المعلومات الخاصة بالفساد إلى القضاء للتحقيق فيها وعرض الحقائق للجمهور خلال سقف زمني معين ومعلوم .
إعادة النظر بدور المدعي العام ليكون ممثلا عن الشعب في الكشف والاستقصاء والتحقيق والدفاع عن حقوق الشعب ضد الفساد والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال .
الاستعانة بشركات وخبراء التحقيق العالمية لضمان الحيادية في التحقيق ووضع حدود عليا للرواتب في الدولة مع ضمان منع ازدواجها قطعا كان يكون 10 ملايين دينار الحد الأعلى للراتب .
إعادة النظر بالجهات الرقابية وتحديد أهدافها ومسؤولياتها بوضوح وتحميلها جزءا من مسؤولية الفساد عند وقوعه الفعل .
التعامل مع الفساد الخارجي وعلى أساس الاضرار التي يحدثها بأنه من نوع الخيانة العظمى وتطبيق أحكام القانون على هذا الأساس
منح المكافآت لمن يبلغ عن حالات الفساد المؤكدة لا على طريقة المخبر السري وإنما من خلال الأدلة والبراهين التي يعول عليها .