رشيد الخيّون
استبشرنا بتكليف المالكي رئيساً للوزراء (2006)، بعد تفاقم المشكلات واستفحال الإرهاب. بدأ خطابه مركزاً على المصالحة الوطنية، وخلال ولايته الأولى لمسنا التَّحسن في الأوضاع، وبداية ترميم العلاقات مع دول المنطقة، رافعاً غصن الزيتون مدعوماً بنية تأسيس جيش وطني قوي، وبكتلة عنوانها «دولة القانون»! وبالنسبة للوضع العراقي تعد أي خطوة مهما صغرت إنجازاً،
لكن ما أن تولى زمام الولاية ثانية، حتى أخذ يتراجع وبغرور معتبراً نفسه «محرر العراق»، و«مختار العصر»، يتحدث عن عصر «الحسين ويزيد»، وفقد صوابه مقدماً ابنه بطلاً، وقادة الجيش والشُّرطة جبناء لا يعنون شيئاً عنده، وشكل ميليشيات خارج الدولة والقانون، ووصل غروره إلى التَّصادم مع المرجعية الدينية، وشتت الإضرابات المطلبية بقوة السلاح، والبداية كانت بمَن تظاهر في ساحة التحرير (2011)، على أنهم بعثيون وإرهابيون، بينما أغلبهم كانوا زملاء له في المعارضة.
انتهت ولاية المالكي وتأسست إدارة جديدة، وبدأت الرئاسات الثلاث متوافقة على ما يُعلن عنه، بالتركيز على ملفين مهمين: المصالحة الداخلية وتطبيع العلاقات الخارجية، وبالفعل فهما ملفان خطيران لتعافي العراق، بعد تحول «المصالحة» في عهد المالكي إلى مكتب إعلام مخادع، أما العلاقات مع الجوار فأخذت تنتكس إلى حد القطيعة.
بعد تسلمه نيابة رئيس الجمهورية كثرت تصريحات المالكي، ضد ترميم ما في الملفين المذكورين، ونسى أن كلامه يحسب على منصبه لا شخصه، ففي مناسبة أُذيعت على الملأ وصف ما حصل بـ«ثورة السُّنة ضد الشِّيعة»، وعلى الرَّئيس فؤاد معصوم ترميم الهدم. كيف يتحدث نائبه عن سنة وشيعة والطَّائفية مستعرة بالبلاد، وهو يلوح بملف المصالحة؟!
وآخر تصريح للمالكي مثّل هدماً لما يحاول الرَّئيس ترميمه في العلاقة مع المملكة العربية السعودية، وبالتالي مع دول الخليج كافة، وعبر قناة «آفاق»، التي تحولت إلى إعلام خاص للمالكي، وكأن رئيس الوزراء ليس مِن «الدَّعوة»، وغير معني بعلاقات العراق الخارجية. جاء على لسان المالكي: «أن توضع السعودية تحت الوصاية الدولية، إذا لم تقدر على الحد من الإرهاب»! فأسرعت رئاسة الجمهورية إلى القول: «إن هذا رأي شخصي لا يمثلها»، كما تقدمت رئاسة الوزراء بمثل ذلك.
فمثلما هدم المالكي الجهود في تحقيق مصالحة، تقوم على أُسس وطنية، بعيداً عن كراهيات الماضي، يحاول هدم ما تم بناؤه مع السعودية ودول الجوار الأُخرى، وبدعم من المرجعية الدِّينية ورئاسة الوزراء. فقبل أن يتوجه الرئيس إلى السعودية، في زيارته الأولى، تباحث مع مراجع الدين الكبار بالنجف وأولهم السيستاني، وأخبرهم بما ينوي عليه، فوجد تأييداً وحماساً، وبالمقابل سمع مِن خادم الحرمين الشريفين كلمات إطراء على آية الله السِّيستاني بالذات: «إنه رجل عاقل». نرى في الموقفين إشارات لتحدي الطائفية والإخلاص في تطبيع العلاقات خارج اختلاف المذاهب، ونية التعاون لكبح الإرهاب فمثلما العراق مبتلى به، فالسعودية أيضاً تعاني منه، فلولا قوة أمنها الداخلي لفعلت بها «داعش» قريباً مما فعلته بالعراق، الجار الجنب، وعلى الحريص قياس الأمر على أخطر الاحتمالات.
إن الحرب على الإرهاب لا تتحقق بلا مصالحة وطنية، وبلا تطبيع للعلاقات مع دول المنطقة، والسعودية في مقدمتها. عندما نتحدث عن السعودية نتحدث عن ثمانية وعشرين مليون نسمة، ومليوني كيلومتر مربع، وحدود ملاصقة طولها ثمانمئة كيلومتر. فكيف التعامل معها؛ هل بأسلوب الهدم لدى المالكي أم باستراتيجية الترميم لدى معصوم؟ وفي أي الخطابين تكمن مصلحة العراق؟
ومما لا يخفى على أحد أن هناك صوتا سياسيا وثقافيا قويا داخل السعودية ضد الإرهاب، مِن خلال ما يكتب في الصُّحف المحلية، ومِن خلال قرارات الدّولة بتجريم التكفيريين، والعمل على ملاحقة المتشددين، وفي الوقت الذي تتوعد «داعش» دول العالم، تتوعد السعودية ودول الخليج بأشد منها، ومَن سمع خطبة البغدادي، والإعلان عن «ولاية نجد»، سيفكر جلياً بالأمر، ولا يأخذه الخطاب الغوغائي البعيد عن الحكمة والعقل.
سيرد علينا العاطفيون الطائفيون الذين لا يرون (28) مليوناً إلا بشخص الإرهابي عبد الله الرشيد الذي قتل خاله لأنه ضابط في الجيش السعودي، ومفجري المساجد بالدمام والقطيف، وبالمنطق نفسه يتحدث الطائفيون الآخرون عن العلاقة مع إيران وعشرات ملايين الشيعة في أنحاء العالم. إنها «لغز الحياة وحيرة الألباب»، حين يتحول الخطاب إلى تهييج وتهريج وتناكف طائفي. لم يفهم المالكي أنه نائب رئيس الدولة، كما نسى أنه رئيس وزراء العراق، والمفروض أن تكون كلمته، في الزمن الصعب، موزونة بميزان الذهب، الغش فيه خسارة فادحة. لذلك مِن حقنا القول إن معصوم يحاول الترميم والمالكي يسعى للتهديم.