مفاهيـم المعـرفــة الـرقـمـيــة

مفاهيـم المعـرفــة الـرقـمـيــة
آخر تحديث:

الدمــاغ.. الــوعـي.. الـعــقـل

د. رسول محمد رسول

عندما نتحدَّث عن الرَّقْمنة التي تداهم الإنسان الأخير في يوميّات معيشه، ونسأل عن طبيعة هذه المعرفة؟ فلا ينبغي أن نتذكَّر أفلاطون، ولا رينيه ديكارت، ولا إمانويل كانط، ولا حتى فريدريش نيتشه الذي كان بارعاً باستعمال مُصطلح الإنسان الأخير(der letzte Mensch) في كتاباته الفلسفية منذ سنة 1872. كلا، لا نُريد لهؤلاء الحضور لأنَّهم توافروا على المعرفة العقليّة في نسيجها الفلسفي المثالي أو النقدي؛ فالمعرفة الرَّقَمية هي معرفة تجريبيّة – رياضيّة لا تحفل بما هو ميتافيزيقي فوق الحس، ولا تتغنّى بكُل ما هو مفارق للمادّة لأنّ المعرفة الرَّقَمية تعتمدُ على القياس الحسي والحساب العقلي جمْعاً، وهذا يعني أن الإنسان الأخير يخوض – بقدر ما يتوسَّل – غمار المعرفة الحسيّة التي تعتمد الحساب الرياضي، كما أن المعرفة التي تميزه هي معرفة مَعملية مُختبرية تجتهد بوضع الأرقام في نسيج ضوئي تصيّره طاقة تفاعل واحتراق ليس بعيداً عن إرادة بشرية تمارسه، ولذلك يمكن اعتبار هذه المعرفة هي الأقرب إلى التداول البشري؛ بل والأكثر إمكاناً لتفاعل الناس معها. ومن هنا نرى المعرفة الرَّقَمية تمارس تأثيراً مترامي الأطراف في البنية الذهنية والعقلية لهذا الإنسان. فكيف ذلك؟

الوعي والعقل
قبل الذهن والعقل، قبلهما معاً، يوجد الدماغ البشري (Brain Human) بوصفه حاضنة بيولوجية مادِّية تتحكَّم بكُل حراكنا البشري في اليومي وعبر التأريخ، حتى ليبدو الدماغ التُحفة النادرة التي أودعها الخالق (الله) في جُمجمة البشر. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر توافرت معلومات عن هذا الدماغ البشري عبر اكتشافات عِلم الأعصاب، والآن صار مُمكناً لأحدنا النظر مرئياً إلى دماغه كما هو عبر شاشة ضوئية ماثلة بيننا أو صفحة ورقية ملقاة أمامنا. 
طيب ماذا عن الوعي؟ في سنة 2003، قال “ستيفن بينكر”: “إن الوعي مثل عاصفة تهبُّ في دماغنا”. وأضاف مُفسِّراً: “يبدو أن الوعي يتألَّف من خليط الحوادث المتوزعة خلال الدماغ”. وهذا يعني أن المادّة النخاعيّة، وكذا المخيّة التي يتكوَّن منها الدماغ سواء كانت الخلايا أم العصبونات كوحدات أساسية في بنية الدماغ أو ما يحيط بها من دهون ومواد أخرى، هي شكل الدماغ البشري الذي بتنا نراه عبر التصوير المجهري، هذه المواد هي الحاضنة التي تهبُّ منها “عاصفة” ما يمكن أن نسميها الوعي، الأمر الذي يعني أنّ الوعي هو حاصل إشارات وتجاذبات تتم داخل الدماغ البشري.
إلى ذلك نتساءل: ماذا عن العقل (Mind)، هل هو مُجرد خلية أو عصبون في الدماغ؟ في الواقع ليس له أي وجود منظور في كتلة الدماغ، ولذلك قال: ميشيو كاكو”: “نحنُ مجرد مادّة رطبة تشغل مادّة مرنة (Software) يُدعى العقل لا أكثر ولا أقل”. لكنّه أردف قائلاً: “إن أفكارنا ورغباتنا وآمالنا وطموحاتنا يمكن اختزالها إلى مجرّد نبضات كهربائية تدور في منطقة ما من القشرة أمام الجبهيّة”. أمّا أنا، وليس بعيداً عمّا قاله صاحبنا “كاكو”، فأعتقد أن العقل لا يعدو أن يكون هالة غير منظورة حسياً حتى الآن ينتجها نشاط الدماغ وحراكه التفاعلي بكل ما له من طاقات كيميائية. 
إن العقل – وبهذه الاعتبارات – لا يختلف عن الوعي؛ فكلاهما يسبت في أثناء نومنا – نحن البشر – ويصحو مع صحونا بعد كُل نوم، لكنّهما قد يشتركان – في أثناء نومنا – بصناعة أحداث غير منطقية، وأقصد بذلك “الأحلام” التي نراها في منامنا؛ الأحلام التي سرعان ما تتوقَّف لحظة استيقاظنا من نومنا لنعود إلى أرض الواقع المُعاش.
إن حفنة العقول التي تحدَّث عنها الفلاسفة بمخيال تأمُّلي عبر التأريخ، لا وجود مادي مشخَّص لها، وتلك الخُلاصة من حسنات المعرفة العِلمية المختبرية التي زوّدتنا بهذه النتيجة فطوبى لها، إلّا أن البشرية لا زالت تتحدَّث عن “العقل” وعن “الوعي” بوصفهما ما يميزان الإنسان عن الحيوان، فكلاهما نُطق؛ ولذلك يقولون عن الإنسان إنه “حيوان ناطق”، ولا ننسى أنّ الله وفي (القرآن) قال عن الإنسان إنه علَّمه الأسماء كُلّها، بمعنى إنه جعله ناطقاً بالعِلم والمعرفة دون غيره من الكائنات الحيوانيّة الأخرى، وجعل من مزيّة النطق الذهني والعقلي ترتقي بالبشر إلى مستوى الإنس، لأن البشر يشتركون مع الحيوانات بالولادة والأكل والشرب ومن ثمَّ الموت، أما الإنس فلهم – فضلاً على ذلك – الوعي والتعقُّل والتخيُّل الخلاق واستشراف الغد حتى إنهم يتعقّلون ويعون ويتخيّلون ما يفعلون، ويفكِّرون في المستقبل الغدي عبر مخيالهم الاستشرافي الذي لهم دون غيرهم من الكائنات. 
في خلال أكثر من قرن ونصف من الزمان استمر العُلماء التجريبيون ينظرون في كينونة الدماغ البشري لمعرفة طبيعته وكيفيّات وآليّات اشتغاله، وفي موازاة ذلك، راح عُلماء غيرهم يشيِّدون معادلاً موضوعياً لكينونة هذا الدماغ ولكن على نحو آلي يتوافر كجهاز له الذكاء الصناعي الخاص به ذاك الذي نعده شبيهاً بالذكاء البشري أو حتى يتفوَّق عليه. وكان ذلك بمثابة التحدي المشروع من أجل إنسان أفضل كما دعت إلى ذلك النزعة “ما بعد إنسانية” في حسها الإيجابي الأول قبل أن تتطرَّف نحو المجهول التدميري في خلال أكثر من نصف قرن مضى.

تجارب ومشكلات
في ضوء ذلك، راح العُلماء يتساءلون عن مكوِّنات الدماغ؟ وضعوا نُصب أعينهم بأنه مادة مُخيّة هلاميّة قابعة في جُمجمة الإنسان، وتعمل بذبذبات ناتجة عن طاقة كهربائية مغناطيسية تتولَّد تلقائياً في كينونة الدماغ لتتحكَّم بها خلايا وعصبونات جمَّة العدد تستقبل، بقدر ما تصدِّر، مليارات المعلومات في زمانية تحدِّدها طبيعة الدماغ نفسها من حيث سلامته الصحية، وحجمه، وعُمْر الإنسان، وطبيعة بيئته الزمانية والمكانية بكُل مُمكناتها المتاحة. وكُل ذلك يؤكِّد أن المرء مَدين لعوالِمه البيولوجيّة مهما تعالى أنف مخياله الذي يأخذه إلى عوالِم الافتراضي اللامتناهي أو الميتافيزيقي أو الماورائي اللامتناهي.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *