مقاربة لجغراسياسية مكان-( من نحن؟) … بقلم صباح علي الشاهر

مقاربة لجغراسياسية مكان-( من نحن؟) … بقلم صباح علي الشاهر
آخر تحديث:

على إستحياء طفقت بعض الأقلام تتحدث عما وجب التحدث عنه والبحث فيه منذ أكثر من قرن مضى( الفضاءات، وحدة سوريا والعراق، المشارقية ) وغير ذلك، وسيكون ما يلي مقدمة ضرورية لتلمسات أولية تستوجبها منهجية البحث، علماً أن الأمور الثلاثة أعلاه لازمة وضرورية، ولكن هناك ما هو ألزم، وأهم وأولى، وأكثر راهنيّة ومعقوليّة وموضوعيّة، ولا يتعارض مع غيره، بل يعززه على نحو مؤكد ومتين، ألا وهو وحدة بلاد الرافدين والشام، وهو ما سنحاول إثباته قدر الإمكان.
****
بين ليبرالية مُتغرّبة، لا بوصلة لها سوى الغرب، ووطنية مُنغلقة، لا ترى أبعد من حدود أنفها، وأمميّة فضفاضة حد العدميّة، وقوميّة البعد الواحد، أضعنا قرن نضال التحرر الوطني من دونما تحقيق شيء ملموس، سوى الهزائم وتوالي النكبات، فلا نحن تحررنا إسوة بدول أنشئت من عدم ، ولا وضعنا أقدامنا ولو على أولى درجات سلم الرقي والتقدم، وعلى كثرة ما حبانا الله من ثروات لم يتوفر نصفها لأمم وشعوب أخرى إنتقلت بزمن قياسي من أسفل السلم إلى ذُراه، لم نتزحزح عن المراتب الدنيا في أي مقياس عُمل ويُعمل لإستقراء نشاط الأمم والشعوب، في هذا العالم المُتحرّك، الركاضة شعوبه لغايات عليا في كل منحى وإتجاه.
لقد إنصرم قرن التحرر الوطني، ولم تبق أرض لم تتحرر، ولا شعب لم يستقل، إلا نحن، فقد ظلت فلسطيننا مُستلبه، وشعبها مُستعبد، وإندمجت دول وأمم مشكلة كيانات جبارة، ونسقت قارات فيما بينها، أما نحن فبعد أن كنا ننشد (بلاد العرب أوطاني)، أصبحنا ننشد لا للوطن الصغير، وإنما للمدينة والحارة، والشارع، والقبيلة، وإنتقلنا فجأة من الأممية والإنسانية، ومن القومية الشاملة، إلى الطائفة والمذهب، وما هو أصغر وأصغر.
كنا نخوض، وطنيين، وقوميين، أمميين وأقليمين، يساريين ويمينين، صراعاً صفرياً لا توسط فيه، فإما أنا أو أنت بقناعات أنا، ولا خيار آخر، وبعد أن توصلنا أو أوصلتنا التجارب إلى عبثية هذا السلوك، إذا بنا ندخل صراعاً صفرياً آخر، أشد هولا وفتكا، لا يستوجب أن تكون كما نريد لك أن تكون، وإنما يستوجب أن لا تكون أصلاً، لأن الله أراد أن لا تكون في هذه الحياة، وأراد بعضهم أن يكون هو أداته سبحانه وتعالى لتنفيذ هذه الإرادة ..
كنا نرى الوطنية، أو الليبرالية، الرأسمالية أو الإشتراكية، القومية أو الأممية، هي الطريق للتطور والنمو، أما الآن فالإسلام هو الحل، وأي إسلام، الإسلام وفق فهم البداوة والعزلة والتخلف والإنغلاق، وكل شيء ما خلا هذا الفهم باطل، ومن عمل الشيطان.
سابقاً كان بعضنا يقتل بعضنا باسم اليسارية أو القومية، الشيوعية أو البعثية، الوطنية أو العمالة، أما اليوم فنُقتل جميعاً، وطنيين، وقوميين، يساريين ويمينين، إشتراكيين وليبراليين، باسم الإسلام، ليس هذا فقط بل يقتل المسلمون المسلمين ،لأنهم شيعة أو علويين، أو صوفيين أو دروز، أو إباضيين، أو زيديين، أو لأنهم ليسوا أتباع داعش، ولا يدينون بالولاء للوالي والأمير وبأسم الإسلام أيضاً، فهل نحن أمة كُتب عليها الموت في كل حين؟!
متى كانت هذه الجغرافية الممتدة من المحيط حتى الخليج، من دونما شيعة، أو متصوفة، علويين، أو دروز، إباضيين أو زيديّن، مسلمين شوافع ومالكيين، حنفيّن، وأتباع طرق، أو مسيحيين، ويهود، صابئة أو إيزيدين، مؤمنين يؤدون الشعائر، يصلون ويصومون، ومسلمين عصاة يذهبون للحانة ولا يذهبون للمسجد، متى كانت هذه الجغرافية من دون زنادقة أو ملاحدة، أو من هم بين بين؟
متى خلت هذه البقعة الجغرافية من المغنين والرسامين والنحاتين، والراقصين والراقصات، والشاربين والشاربات، ومرتادي دور اللهو؟
أوليس مهبول هذا الذي يتصور، مجرد تصور أنه قادر في هذا الزمن الإنساني، المنسرح دونما فواصل وموانع على الأماكن المتداخله بعضها ببعض، والشديدة القرب بعضها من بعض، على القضاء على هذا التنوع، وتحويل جغرافية حضارية بهذا العمق والغنى والتنوع الثر إلى موات صحراوي وعقم.
واحدة من أهم مسببات ما يحدث هو العزلة، العزلة التي فرضها نمط معين من العيش والحياة ، وواحدة من مسببات القضاء على البؤس الذي نحن فيه هو فتح كوّة كبيرة في جدار العزلة، والإنفتاح الحقيقي على الآخر القريب منا، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
لا عيب في الصحراء، ولكن العيب أن تطمر الرمال السمر الأراضي الغناء.
لا عيب في البداوة، ولكن العيب أن تتمدد خارج البوادي، وتغزو الحواضر.
ما كنا، حتى في الزمن الغابر أبناء صحراء فقط، ولا كنا أبناء بداوة، فأغلبنا الأعم أبناء حواضر حملت أرقى الحضارات، حضارات وادي الرافدين، والشام، ووادي النيل، قد تكون البداوة بعض من سماتنا الهامشية، أو المتنحيّة، وقد تكون سمة البعض القليل منا، البعض المُنغلق في عمق الصحراء والمعزول عن الدنيا بحكم البيئة، لكنها ليست سمتنا، ولا صفتنا، نحن العراقيين، الشوام، المصريين، الشمال أفريقيين.
المدنية والتمدن نتاج المدينة، والحضارة نتاج التحضر والحواضر، وبالتمدن والحضارة يعيش إنساننا المعاصر، أما الصحراء والبداوة فليست أكثر من تُراث يُعنى به، ويُستثمر سياحياً.
أول شيء ينبغي تحديده هو، هل نحن (بدو أم حضر)؟، وبتحديد هذا، سيتحدد بداهة نمط حياتنا وعيشنا، وبالتالي طرائق تفكيرنا.
سمة سكان الصحراء العزلة والإنغلاق، وسمة سكان المدن الإنفتاح وقبول الآخر.
بين (صوابي صواب لا يحتمل الخطأ)، و(صوابي صواب يحتمل الخطأ)، يكمن الفارق بين البداوة والتحضر، الإنغلاق والإنفتاح، التمدن والتخلف، التعصب والتسامح ،الغلو والتعايش .
ومن أجل أن نبدأ، ينبغي أن نحدد من نكون، أو كيف ينبغي أن نكون.
نحن أناس (مُتحضرون)، أو هكذا ينبغي أن نكون، ليس لأننا نتاج حضارات عظيمة فقط، ولا لأننا ورثة قيم إنسانية عظمى جعلت الإنسان قيمة فوق أية قيمة أخرى فقط، وإنما أيضاً لأننا نعيش في عالم سمته الأساسية التحضر، وإحترام الإنسان لا لشيء إلا لأنه إنسان، بغض النظر عن عرقه أو جنسه، دينه أو مذهبه، فكره أو عقيدته، وإحترام حقوقه، في العيش والعمل والمعتقد والرأي والإختلاف، لا يجوز لنا الحجر عليه، ولا مصادرة حقه في إبداء رأيه، أو مزاولة ما يعتقد به، إذا لم يكن يضر بالآخر.
لم يُعد ما ذكر أعلاه نافلة، ولا لزوم ما يلزم، وإنما هو جوهر الجوهر، والأساس والقاعدة التي تُبنى عليها الأشياء كلها، والتوجهات كلها.
-يتبع-

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *